يُحكى في المأثور أن ثعلباً كان واقفاً على قارعة الطريق وقد أضناه التعب من المشي، فمرّت به أرنب فوق حمار، فترجّاها أن تُرْدِفه وتوصله لبُغيته في طريقها، وما إن سارا قليلاً حتى قال الثعلب: «ما أجمل حمارك يا أرنب»، فلم تردّ عليه ـ وبعد فترة ليست بالطويلة نطق الثعلب من جديد وهو يقول: «ما أجمل حمارنا يا أرنب»، حينها التفتت سريعاً ناحيته وركلته بقوة ليسقط من فوق الحمار وهو يتساءل باستغراب عن سبب فعلها هذا، فردّت عليه بلسان الحكيم: «بعد قليل كنتَ ستقول: ما أجمل حماري يا أرنب»!

كنت قبل أيام في جلسة مع الدكتور النقّادة الكبير عبدالعزيز الساوري في إحدى ضواحي مدينة الرباط، ودار الحديث كثيراً عن مجال اختصاصه وهو تحقيق المخطوطات الإسلامية القديمة، ومر بي حديثه الشيّق إلى كارثتين لاحظهما في سنواته الأخيرة تحديداً وينطوي عليهما من الشر الكثير، أولاهما تسرق ما في جيبك، والأخرى وهي الأدهى، تزيّف عليك تاريخ ما مضى، فقد واجه الكثير من المخطوطات المزيفة بأيدي عرب للأسف ومن دولٍ بعينها، تباع بأثمان باهظة للغاية على غير مختصين يصدّقون موثوقيتها وأصالتها، بينما تنسلّ بهدوء العديد من المخطوطات اليهودية المزيفة والتي تزيف أحداث التاريخ القديم أو تطعن في الدين الإسلامي وتُغرِق الأسواق، للأسف فلصوص العرب يسرقون أموال إخوانهم العرب، بينما غيرهم يسعى جاهداً لسرقة كل ما لديهم!

إنّه من المعروف أنّك إذا أردت أن تصطاد سمكة كبيرة فلا بد أن يكون الطُعم كبيراً أيضاً، فسلب ما لدى غيرك يحتاج منك جهداً مضاعفاً في التخطيط والتنفيذ وأضعاف ذلك من الصبر وعدم استعجال النتائج، وهو أمر يبدو أننا نسيناه كعرب ومسلمين، فأصبح نَفَسُنا قصيراً للغاية، وشكاياتنا لا تتوقف، وبحثنا عن أي شُبهة شمّاعة لتحميلها وِزْر فشلنا هو الشيء الوحيد الذي نقوم به بحماس، بينما خصومنا يتقدمون ببطء ولكن من دون توقف، بصمت ولكن بفعلٍ مؤثر، والمشهد يتغيّر والحقيقة تضيع تحت سطوة التزييف الهادئ والمتدرج، كما تقول الأغنية الأجنبية القديمة: «شخصٌ آخر يفقد أرضاً»!

تداعت لي الكثير من اللحظات «المستفِزَّة» وأنا أسوق خُطاي بعد لقائي بالدكتور الساوري، تذكرت كم هي اللحظات التي مررتُ بها بجامع قرطبة العظيم وبقايا المدينة القديمة المحيطة به، حيث كان قصر الإمارة وبيوتات القادة والوزراء وأعيان البلد والسوق الكبير والخانات والحمامات العربية ودار المال وبيت عابري السبيل والمعوزون الذي بناه الحكم المستنصر ورصيف أو «كورنيش» قرطبة الساحر الذي أنشأه عبدالرحمن الأوسط كمنتزه لأهالي مدينته والحدائق الوارفة المحيطة به، ثم أجد كل ذلك قد طُمِس وزُوِّر وتم إطلاق اسم «الحي اليهودي» على قلب قرطبة العربي الإسلامي، وتجد مثل ذلك في إشبيلية القديمة وغرناطة، كانت الأسئلة تستدعي لنفسها العديد من الأجوبة، كلها مؤلمة مهما حاولت إحسان الظن!

تقول قبائل النافاهو: «الضباع دائماً تنتظر، وهي دوماً جائعة»، وليس المراد هنا تحريضاً على أحد، ولكن المؤمن فَطِن لا يُخْدَع، فليست كل الوجوه المبتسمة تبتسم عن مودة، ولا تعني الكلمات اللطيفة والمنتقاة بعناية في بعض الأحيان إلا مدخلاً للإيقاع بالطرف الآخر، خاصة إن عضدت ذلك الوقائع وشهد لها التاريخ في أزمانه المتعاقبة، فالخيريّة المطلقة لن تحدث في الدنيا أبداً، فأرباب المصالح بمختلف مشاربهم لا يتوقفون عن التكاثر والتكالب على الآخرين المسالمين.

يخبرني أحد الأساتذة المتخصصين بالتاريخ الأندلسي بأمر جامعة ألكالا دي ايناريس القريبة من مدريد، إذ أخذت على عاتقها تزوير التاريخ الأندلسي برمّته، ونسب كل المنجزات العربية والإسلامية العظيمة فيه إلى اليهود، واختلاق «يهودية» الكثير من أعلام الأندلس، ويقومون بذلك الأمر بشكل أكاديمي ممنهج وبعمل ونشر أبحاث ودراسات ملفقة لطمس الوجه العربي المسلم عن تاريخ ذلك البلد، ولئن ظن البعض أن حبل الكذب قصير فقد علمتنا الأيام عدم صحة هذه المقولة على الإطلاق، فقد سرق الأوروبيون ثلاث قارات كاملة وأبادوا أهلها واحتلوها ثم قالوا «لقد اكتشفنا عالماً جديداً»، فالكذب المدعوم بآلة إعلامية قوية وأموال كثيرة تدفع تحت الطاولة لشراء الذمم يتحول إلى واقع لا مفر منه بمرور الأيام، وها هم الصينيون وكأنهم يقولون لنا تحديداً من وحي تجاربهم المريرة لكي نتدارك الأمر قبل فواته: «عندما ينبح كلبٌ واحد لرؤية خيال ما، يتولى عشرة آلاف كلب مهمة تحويل ذلك الخيال إلى حقيقة!».