يقول المثل الشعبي «إللي معاه قرش محيره، يجيب حمام ويطيره». من يملك مالاً وفيراً، ويحتار في كيفية إنفاقه، يشتري طيوراً ثم يدعها تطير إلى حال سبيلها.
لكن السبيل الذي ينتهجه الملياردير الأمريكي الفذ إيلون ماسك مع ماله وطيوره مختلف. فهو اشترى منصة «تويتر» البعيدة إلى حد ما عن مجال أعماله بين سيارات كهربائية واستكشاف الفضاء والعملات المشفرة والمقاولات، والقريبة إلى حد ما من الشركة الجديدة للذكاء الاصطناعي، ليضيف أبعاداً جديدة لإمبراطوريته.
إمبراطورية ماسك فريدة. هي خليط من المال والأفكار والسخرية والغرابة والابتكار والسياسة والرؤى غير المتوقعة والتي تجلب له الكثير من الانتقاد، والذي على ما يبدو يثير شهيته للمزيد من التفرد.
تفرد ماسك يدعو مليارات البشر حول العالم من المتابعين لأعماله وتصريحاته ومشروعاته وخطواته، وكذلك ممن يقع عليهم أثر مباشر لقرارته «المدهشة»، وفي أقوال أخرى «الصادمة». ولعل منصة «تويتر» والتغيرات التي تلم بها من وقت لآخر منذ استحوذ عليها العام الماضي خير دليل.
العام الماضي شهد غياب عصفورة «تويتر» الزرقاء المعششة في أذهان ما لا يقل عن 353 مليون مستخدم، بالإضافة إلى ملايين أخرى تتابع عن بعد أو تطالع مقالاً أو تدوينة أو إشارة إلى ما ورد في تغريدات «تويتر». عصفورة زرقاء تعني «تويتر»! لكن العصفورة الزرقاء قوبلت بحنق شديد وكراهية من قبل المالك الجديد منذ البداية.
لم تمض ساعات قليلة على استحواذ ماسك على «تويتر» حتى كان يتحدث عن «ضرورة ذهاب كل العصافير الزرقاء اللعينة». وظلت العصفورة موجودة رغم تكهنات الإخفاء وتوقعات الإطاحة لأسابيع، وذلك قبل أن تختفي لفترة وجيزة في أبريل الماضي. ساد الوجوم بين ملايين المستخدمين.
السبب لم يكن فقط افتقاد العصفورة الزرقاء الشهيرة المرتبطة بالمنصة الأكثر شعبية، والتغريدات الأكثر رشاقة وحدة وأثراً، والأداة أكثر فعالية لتواصل الساسة والحكام والوزراء والمشاهير مع الجماهير، والمنبع الأسرع لتوصيل المعلومة والرأي والرؤية، بل كان وجوماً يعكس فقدان الثقة والشعور بالأمان المرتبطين بالاستمرارية.
استمرارية «تويتر» باتت على المحك. والاستمرارية لا تعني بالضرورة انعدام تطوير، أو غياب تحديث لكنها تعني ارتباطاً عملياً ونفسياً ينشأ بين المنصة والمستخدم، وكأنه ضمن بنود عقود الاستخدام.
تم الإخلال ببند، فبدأت القلاقل وساد القلق. قلق تغيير الاسم من «تويتر» إلى «إكس» ليس امتعاضاً، بقدر ما هو تحسب وخشية مما هو قادم. وما هو قادم بدأ يتكشف. ظاهره جميل ومبهر، أما باطنه فيبقى في علم الغيب ورأس ماسك.
ماسك يعتزم تحديث سياسة خصوصية «إكس» (تويتر سابقاً) بغرض جمع بيانات بايومترية مثل صور وجوه المستخدمين. وسيكون في الإمكان – لمن يرغب - استخراج هذه البيانات من بطاقات الهوية الرسمية والصور الشخصية للمستخدم، وذلك «لأغراض المطابقة» وللتأكد من أن الحسابات حقيقية لأشخاص حقيقيين وليست وهمية «لجعل المنصة أكثر أمناً».
ليس هذا فقط، بل سيجري جمع بيانات المستخدمين التوظيفية والتعليمية – لمن يرغب «لتقديم خدمات توظيفية».
بمعنى آخر، سيكون كل ما يتعلق بحياة الشخص التعليمية والمهنية متاحاً لدى «إكس»، بالإضافة بالطبع لوجود مخزون الشخص التغريدي لديهم، وهو المخزون الذي يكشف ويعري انتماءات المستخدم الفكرية والنفسية والسياسية والعاطفية.
«إكس» تقول إن الغرض هو خدمة المستخدم، وذلك بتقديم مقترحات حول الوظائف المحتملة، حيث التشبيك بين صاحب العمل المحتمل والباحث عن الوظيفة. وكانت «إكس» استحوذت قبل ثلاثة أشهر على خدمة «لاسكي» للتوظيف التقني.
معلومات شخصية ووثائق رسمية وخدمات توظيفية، ومعها خطة مستقبلية لإتاحة خدمة إجراء مكالمات بالصوت والصورة عبر «إكس» لمن يرغب، وذلك دون الحاجة لمشاركة رقم الهاتف!
وما أهمية رقم الهاتف في ظل قاعدة بيانات وصور ومعلومات بهذه الوفرة والعظمة والخصوصية؟! ماسك نفسه وصف «إكس» بإنها ستكون «سجل العناوين العالمي الفعال». والحقيقة إنه محق في كل كلمة.
كلمات ماسك محسوبة بالميزان. لكنه حين يقول إن شركته الجديدة للذكاء الاصطناعي «إكس إيه آي» و«إكس» وغيرهما ستمتنع عن استخدام البيانات في غير محلها أو لتدريب نماذج الدردشة والتعلم الروبوتي، وإنها ستستخدم فقط البيانات والمعلومات المتاحة على الملأ، فإن الكلام يبقى كلاماً. فحدود وتعريفات البيانات والخصوصية والاستخدام المباح وغير المباح أمور بالغة التعقيد.
وعلمتنا الثورة الرقمية، والعصر الرقمي، والثورة الصناعية الرابعة أن الخصوصية مادة هلامية، وأن قوى العالم الكبرى المتمثلة في شركات الذكاء الاصطناعي ومنصات التواصل الاجتماعي لها تعريفات للمفاهيم والمقادير تختلف عن تلك التي كان معمولاً بها في عصر هيمنة الدماغ البشرية. ما نحن مقبلون عليه ما زال غامضاً، لكننا سنقبل عليه على أية حال، سواء كنا راغبين أو غير راغبين، إذ لا خيارات أخرى أمامنا.