سأترك جانباً تاريخ نشوء الأكاديمية التي تعود إلى أفلاطون، وتطورها، وظهور الأكاديميات المتعددة في العالم الأوروبي بشكل خاص. وذلك كي أنطلق من الواقع الراهن وما يتواضع عليه الناس باسم الأكاديمي.

ففي بعض دول العالم هناك المؤسسة الأكاديمية التي تضم عدداً محدوداً ممن لهم شأن كبير في حقل من حقول العلوم الإنسانية والطبيعية.

لكن المتعارف عليه الآن هو أن الناس يطلقون على كل من يعمل في المؤسسات الجامعية من حملة الدكتوراه لقب أكاديمي، وهذا يعني أن الأكاديمي هو شخص تخصص بعلم من العلوم أو أحد فروعه تخصصاً عالياً وحصل على شهادة اعتراف عالية تؤهله للعمل في المؤسسات العلمية الطبيعية والإنسانية.

ومن حيث المبدأ فإن الزاد المعرفي للمتخصص بعلم من العلوم وحاصل على لقب الدكتوراه يجب أن يكون غنياً وأغنى من غيره في المجال نفسه ممن لم يتابع تحصيله العالي. أقول من حيث المبدأ، لأن واقع الحال لا يؤكد قولنا هذا بشكلٍ عام.

وهناك فرق بين المبدع، وخصوصاً في حقل العلوم الإنسانية والأدب والفنون على اختلافها من جهة والأكاديمي من جهة ثانية، فأغلب المبدعين في هذه المجالات ليسوا من الحاصلين على درجة الدكتوراه، بل وهناك عدد قليل جداً من الأكاديميين المبدعين في الأدب والفن والفلسفة.

ولهذا فقد شاع قول في تعريف الدكتور الأكاديمي في هذه المجالات مفاده: إن الأكاديمي في الأدب والفن والفكر عموماً هو ذلك الشخص الذي حصل على شهادة دكتوراه في أعمال شخص مبدع لا يحمل دكتوراه.

فعدد رسائل دكتوراه الفلسفة التي كتبت عن وجودية سارتر الذي لم يكن أكاديمياً، تفوق صفحاتها بمئات المرات، إن لم أقل بالآلاف، الصفحات التي كتبها سارتر.

الأكاديمي العادي مهنة تعليم لا تخرج من إطار الجامعة أو المعهد، فيما الأكاديمي المبدع هو الذي يخرج من أسوار المهنة ويقدم ما ليس بمألوف أو معهود أو معروف، فيحتل مكانة تفيض عن المؤسسة الجامعية الرسمية، لتصل إلى عالم المعرفة الكلية.

فالجامعات متخمة بالأكاديميين العاديين، والذين هم صناديق معرفة مفيدة ولا شك في حقل مهنتهم، لكنها فقيرة بالأكاديميين المبدعين. وسبب ذلك أن الأكاديمي المبدع ليس مبدعاً لأنه أكاديمي، بل هو موهوب اغتنى بالمعرفة وتحولت موهبته إلى مصدر تفكير جديد.

والمبدعون في العلوم الطبيعية هم الموهوبون الجالسون في المخابر ليكشفوا الأسباب الخفية لهذه الظاهرة أو تلك، ويخوضون تجاربهم ويطرحون فرضياتهم إلى أن تصدق فرضية ما وتغدو علماً، وهذا هو الاكتشاف العلمي. الاكتشاف الذي يتحول إلى أساس إما لمعرفة جديدة أو لدحض معرفة قديمة.

والمبدعون الأكاديميون في العلوم الإنسانية والمباحث الأدبية، هم الذين يجهدون في صياغة مناهج جديدة في المعرفة الإنسانية والنقد الأدبي.

فما زلنا ندين لهيجل بمنهجه الدياليكتيكي، وليس فوكوياما في فكرته عن نهاية التاريخ.

وما زلنا أيضاً ندين للأكاديمي لليفي شتراوس بمفهوم البنية وتحول البنيوية إلى منهج في العلوم الاجتماعية - الأنتروبولوجية، وفي النقد الأدبي، وما تشعب عنها من زوايا رؤية فلسفية.

ما زال النحاة الأكاديميون العرب يسيرون على هدي الأقدمين فيما يتعلق بالاستشهاد الشعري على قواعد النحو وحصره في شعراء الجاهلية وصدر الإسلام وبداية العصر الأموي.

فيكون عمرو بن كلثوم مرجعاً شعرياً عن قواعد النحو، فيما لا يعتد بأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء المعري. وهذا تعصب لا يليق بتطور نحونا. وقس على ذلك في مباحث علم التاريخ والعلوم الإنسانية ونقد الأدب والشعر.