لفتت انتباهي في الأيام الماضية بعض الأخبار المتفرقة عن مهاجري القوارب الذين يخاطرون بأنفسهم في أثناء الفرار من بلدانهم إلى أوروبا، إما هرباً من الحروب والصراعات التي تدور في بعضها، وإما هربا من الفقر والجوع وانعدام فرص العمل ومصادر الرزق في بعضها الآخر، عابرين البحر في قوارب تفتقر إلى أدنى شروط السلامة، وسط أمواج تلقي بهم إلى المجهول، أو تبتلعهم قبل أن يصلوا إلى أرض الأحلام التي يرون فيها خلاصهم.
يقول أحد هذه الأخبار إن أكثر من 2500 مهاجر قضوا أو فقدوا في أثناء محاولتهم عبور البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا منذ مطلع هذا العام، وفق مديرة مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في نيويورك، التي قالت إنه حتى 24 سبتمبر الماضي تم إحصاء أكثر من 2500 شخص بين قتيل ومفقود في الشهور الماضية من هذا العام.
ويمثل هذا الرقم زيادة بمقدار الثلثين، مقارنة بـ1680 شخصاً في الفترة نفسها من سنة 2022. وشدّدت المسؤولة الأممية على أن «أرواحاً تُزهق أيضاً على الأرض بعيداً عن أنظار الرأي العام».
وأشارت إلى أن «الرحلة من غربي أو شرقي إفريقيا والقرن الإفريقي إلى ليبيا ونقاط انطلاق على الساحل تظلّ من أخطر الرحلات في العالم». وبحسب الأرقام التي أعلنتها المسؤولة الأممية، وصل في الفترة من مطلع العام وحتى 24 سبتمبر الماضي 186 ألف مهاجر إلى جنوبي أوروبا، ومن بينهم 130 ألفاً إلى إيطاليا، وبزيادة قدرها 83 % مقارنة بالفترة نفسها من سنة 2022.
ويتحدث خبر آخر عن جزيرة «لامبيدوزا» الإيطالية، التي أرسلت نداء استغاثة لمساعدتها على استيعاب المهاجرين الذين تجاوز عددهم عدد سكان الجزيرة، التي قال رئيس بلديتها إنها باتت مكتظة بالمهاجرين بعد وصول آلاف من شمالي أفريقيا إلى شواطئها على متن قوارب.
وقال رئيس البلدية لمحطة إذاعية إيطالية: «وصلنا الآن إلى نقطة اللاعودة والجزيرة في أزمة»، ولهذا نظمت السلطات بعض عمليات النقل إلى جزيرة صقلية الأكبر حجماً لتخفيف الوضع في لامبيدوزا، وهو أمر تتوقع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن يستمر في الأيام المقبلة. وتقع لامبيدوزا في البحر المتوسط بين تونس ومالطا وجزيرة صقلية الإيطالية، وهي أول ميناء يبلغه المهاجرون الساعون للوصول إلى دول الاتحاد الأوروبي.
مأساة سكان «لامبيدوزا» المتمثلة في اكتظاظ جزيرتهم بالمهاجرين، الذين أصبح عددهم يفوق عدد سكان الجزيرة البالغ 7000 نسمة، مأساة هؤلاء السكان تهون أمام مآسي المهاجرين الذين يموت الآلاف منهم غرقاً قبل الوصول إلى أرض أحلامهم التي تتحول إلى كوابيس بسبب ما يتعرضون له في أثناء رحلتهم الطويلة من البلدان التي يأتون منها في البر أولاً، ثم حينما تقلهم تلك القوارب المتهالكة عبر البحر وهي محملة بأعداد تفوق قدرتها على الاستيعاب، ليجدوا أنفسهم وسط مياه المتوسط وقد تبخرت أحلامهم وانتهت رحلتهم غارقين في مياه بحره المتلاطمة.
وما يزيد الألم هو عدد الأطفال الذين يقضون في أثناء هذه الرحلات، إذ تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة إن البحر المتوسط بات مقبرة للأطفال، وقد سجلت المنظمة غرق ما لا يقل عن 990 شخصاً ومن بينهم أطفال في المنطقة الوسطى من البحر المتوسط بين يونيو وأغسطس من هذه السنة 2023، وهو أكثر بثلاث مرات مما كان عليه العدد في الفترة نفسها من سنة 2022 حينما قضى ما لا يقل عن 334 شخصاً، ولم تحدد منظمة «يونيسف» بالأرقام عدد الأطفال، إلا أن 11600 قاصر غير مصحوب حاولوا التوجه إلى إيطاليا بين يناير ومنتصف سبتمبر من سنة 2023 في مراكب صغيرة، أي أكثر بنسبة 60 % مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، حين بلغ عددهم 70 ألفاً، كما أوضحت المنظمة.
الهجرة حق مشروع لجميع البشر حينما تضيق بهم سبل الرزق، ولكن شريطة أن تتوافر لها عوامل الأمان، ولا تعرض حياة الإنسان للخطر، فبعدما تراجعت مهنة الغوص على اللؤلؤ الطبيعي في منطقة الخليج، مع اكتشاف اللؤلؤ الصناعي قبل بدء الحرب العالمية الثانية، هاجر الكثير من آبائنا وأجدادنا إلى دول الخليج الأكثر غنى في تلك الفترة طلباً للرزق، وقد استقبلهم إخوتهم هناك استقبالاً طيباً، وعملوا في مختلف المهن والوظائف، من دون أن يعرضوا أنفسهم للهلاك والخطر، حتى إذا ما من الله على هذه الأرض بالخير، وتفجر النفط من باطن أرضها، عادوا إليها ليجعلوا منها دولة عصرية تحسدهم عليها شعوب دول العالم أجمع، وتهاجر إليها طلباً للرزق والحياة الهانئة.
ليس ثمة عيب في الهجرة حينما تضيق بالإنسان سبل العيش، شريطة ألّا تكون هذه الهجرة انتحاراً، وألّا تؤدي إلى انتهاك كرامة الإنسان التي هي أغلى ما يملك.