صادف يوم الجمعة الماضي الذكرى الخمسين لحرب السادس من أكتوبر 1973 ميلادية، الموافق للعاشر من رمضان 1393 هجرية. وهي حرب مفصلية في تاريخ الأمة العربية، لأنها جاءت بعد مرحلة من الإحباط، سببها ما خلفته نكسة الخامس من يونيو 1967 ميلادية، التي تعرضت فيها ثلاث دول عربية مجاورة لإسرائيل، هي مصر وسوريا والأردن، لهزيمة عسكرية أدت لخسائر بشرية ومادية كبيرة، واحتلال أجزاء من الأراضي العربية، وتدمير جيوش هذه الدول الثلاث، وتراجع معنويات الأمة كلها.

لهذا جاءت حرب السادس من أكتوبر لتحيي في نفوس أبناء الأمة العربية الأمل، رغم ما حدث بعد ذلك من أحداث أدت إلى التوقيع على اتفاقية فك الاشتباك في 31 مايو 1974 وإعلان نهاية الحرب، بعد موافقة إسرائيل على إعادة ضفة قناة السويس الشرقية لمصر ومدينة القنيطرة إلى سوريا، مقابل إبعاد القوات المصرية والسورية عن خط الهدنة، لتكون هذه الحرب هي الأخيرة خلال القرن الماضي بين الدول العربية وإسرائيل، خاصة بعد أن ارتبطت مصر والأردن بمعاهدتي سلام مع إسرائيل، دون إغفال بعض العمليات والحروب الصغيرة التي نشبت بين إسرائيل وبعض الفصائل والتنظيمات والحركات والأحزاب، وهي عمليات وحروب محدودة لا يمكن مقارنتها بالحروب الأربعة التي جرت أعوام 1948 و1956 و1967 و1973.

لسنا بصدد استعراض ما جرى من أحداث قبل وخلال وبعد حرب السادس من أكتوبر بالتفصيل، لأن مراكز الأبحاث والمكتبات ملأى بالكتب والدراسات والمقالات التي تناولت تلك الحرب بالدراسة والتحليل والتمحيص.

لكن هذا لا يعني أن لا نقف وقفة تأمل بعد مرور نصف قرن عليها، خاصة وأن نصف القرن المنصرم هذا شهد أحداثاً كبرى، اختفت خلالها وجوه وظهرت وجوه، وانفصمت تحالفات وقامت تحالفات، وتفتت دول ونشأت دول، وتغيرت معالم جغرافية وديموغرافية كثيرة كان تغييرها، في الدول التي حدث فيها التغيير، يحتاج سنوات عديدة في أزمان أخرى، غير الزمن الذي حدث فيه، خلال نصف القرن الماضي، فكيف كنا، وكيف أصبحنا، وإلى أين نحن سائرون اليوم بعد آخر حرب توحدت فيها الدول والشعوب العربية، وأعادت الأمل إلى النفوس المتطلعة للوحدة، وهل تبخر هذا الحلم وأضحى سراباً علينا أن نطارده خمسين عاماً أخرى، وقد لا نستطيع الوصول إليه ولا الإمساك به؟

هذه الأسئلة وغيرها تبدو ضرورية ومهمة، ليس لجيل أولئك الذين عاصروا تلك الحرب، وعاشوا ما جرى بعدها من أحداث من الصعب تصور حدوثها، وأدركوا هول ما انحدرت إليه الأمة من خلافات وصراعات، وما تعرضت له من مؤامرات أدت إلى هذا التشرذم الذي نعيشه الآن، وإلى هذه المتاهة التي يحتاج الخروج منها معجزة إلهية.

هذه الأسئلة وغيرها تبدو ضرورية ومهمة لجيل الأبناء والأحفاد الذين لم يعاصروا تلك الحرب، ولم يعيشوا أو يعوا الأحداث التي جرت خلال الأعوام الخمسين الماضية، منذ أن انتهت تلك المعركة، وحتى أفاقت الأمة على واقع عربي لا يعبر عن الانتصار الذي حققته الجيوش العربية في تلك الحرب التي أعادت الأمل إلى النفوس، وأحيت البهجة في القلوب، وبشرت بزمن عربي جديد، قبل أن يتحطم هذا الأمل على صخرة الأحداث التي جرت بعد ذلك، وكان يمكن أن يكون ما بعد حرب السادس من أكتوبر أفضل مما كان قبلها وأثناءها، لولا أن جرت الأمور على نحو جعل بهجة الانتصار تنطفئ، وجعل الحلم يتضاءل شيئاً فشيئاً حتى كاد يضمحل ويختفي.

لا نقول هذا من باب تثبيط الهمم، ولكن من باب إحياء الأمل من جديد في زمن نعتقد أن الوعي فيه أصبح أكبر، وأن القدرة على قراءة ما يجري حولنا أصبحت أفضل، وأن الوقت ما زال يسمح بإصلاح ما انكسر.

صحيح أن المهمة تبدو صعبة، إن لم يقل البعض إنها مستحيلة، لكن المستحيل يغدو مجرد احتمال عندما تتوفر الإرادة، وعندما يحضر الوعي، وعندما تصدق النيات وتصفو القلوب، رغم أن إعادة الصفاء إلى القلوب تبدو مهمة صعبة في ظل ما حدث خلال العقود الثلاثة الأخيرة من هذه السنوات الخمسين على وجه الخصوص.

لقد تاهت هذه الأمة في الأرض خمسين عاماً منذ أن حققت أول انتصار لها في تاريخها الحديث يوم السادس من أكتوبر عام 1973م، ولا نظن أن التيه مكتوب عليها خمسين عاماً أخرى.