تثير وتيرة النزاعات المسلّحة المنتشرة في عدد من بقاع العالم عديد الإشكاليات والمخاطر في علاقة أساسها ضرورة حماية المدنيين غير المشاركين في هذه النزاعات.

ومنذ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر 1948 الذي كان مصدر إلهام لعدد هامّ من معاهدات حقوق الإنسان الدولية الملزمة قانوناً وإرسائه بالتالي القواعد والمبادئ العامة لهذه الحماية، جاءت اتفاقيات جنيف الأربع في 12 أغسطس 1949 لتؤثّث منظومة حماية تقي المدنيين ويلات الحرب، سواء تعلق الأمر بالحروب الدولية.

أو تلك غير الدولية، أو النزاعات التي تكون في إطار حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وهو حقّ تضمنه كما هو معلوم الشرائع الدولية، رغم أنّه يخضع على الأرض لموازين القوى وإلى مدى وجود توازن من عدمه في العلاقات الدولية، مثلما كان الشأن عقب الحرب العالمية الثانية.

وتكون الحرب دولية عندما تكون أطرافها دولتين فأكثر، فيما يعني النزاع المسلح غير الدولي حالات العنف التي قد تصل إلى مواجهات مسلحة طويلة الأمد على أراضي دولة ما بين القوات الحكومية وجماعة أو أكثر من الجماعات المسلحة المنظمة مهما كانت طبيعتها، أو بين تلك الجماعات مع بعضها البعض.

ويتدخل القانون الدولي الإنساني كعامل مكمّل للمنظومة التي أرست قواعد حقـوق الإنسان، وذلك لحماية الفرد في زمن الحرب والسلم، والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان هما نظامان مختلفان لكنهما متكاملان، إذ يُعنيان بحماية أرواح الأفراد وصحتهم وكرامتهم، وتنطبق المنظومة الدولية لحقوق الإنسان في كل الأوقات، سواء في حالات السلم أو الحرب، فيما ينطبق القانون الدولي الإنساني في النزاعات المسلحة فقط.

ويوفر القانون الدولي الإنساني الحماية لمجموعة واسعة من الأشخاص والممتلكات خلال النـزاعات المسلحة. وتحمي اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية المرضى والجرحى والمنكوبين في البحار، الذين لا يشاركون في الأعمال المسلحة، وأسرى الحرب والأشخاص المحتجزين الآخرين، بالإضافة إلى المدنيين، وتمنع كذلك التهجير القسري وقطع أو إتلاف الوسائل الضرورية للحياة، وتعتبر ذلك من جرائم الحرب. ولا يقتصر اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻹﻧﺴﺎني اﻟﺪولي على مجموعة اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟتي تهدف إلى الحد ﻣﻦ آﺛﺎر اﻟنزاع المسلح ﻋﻠﻰ المدنيين واﻷﺷﺨﺎص اﻟﺬﻳﻦ لا ﻳﺸﺎرﮐﻮن اﻟنزاعات.

بل هو يشمل كذلك المقاتلين من الجانبين من خلال فرض ﻗﻴﻮد ﻋﻠﻰ أﺳﺎﻟﻴﺐ الحرب وﻃﺮاﺋﻘﻬﺎ. وتنظم اتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكولاتها الإضافية قواعد الحرب وحقّ الردّ والدفاع عن النفس في إطار ما يعرف بالقانون الدولي الإنساني، أي مجموعة القواعد الدولية التي تحدد ما يمكن وما لا يمكن فعله أثناء النزاع المسلح.

والفلسفة العامة للقانون الدولي الإنساني هي حماية المدنيين والمقاتلين في الحالات غير المشمولة بأيّ بروتوكول من بروتوكولات جنيف الأربعة، أو بأيّ اتفاق دولي آخر، وذلك من أجل وضعهم «تحت حماية وسلطان مبادئ القانون الدولي.

كما استقر على ذلك العرف ومبادئ الإنسانية وما يمليه الضمير العام». ولكن من المهمّ التنويه إلى أنّ هذا القانون الدولي الإنساني لا يكتسي الطابع الشمولي والعالمي، نظراً لكون ثلث الدول لا تلتزم حالياً بالبروتوكولين الإضافيين لاتفاقيات جنيف لسنة 1977.

ورغم هذا النقص مثّل هذا القانون الدولي الإنساني مع ذلك خيمة وملجأ لحماية قانونية وأخلاقية نسبية للأطراف الضعيفة في الحروب والنزاعات وخصوصاً المدنيين. ولكنّنا نشهد اليوم محاولات محمومة من أجل نسف مقوّمات القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني في محاولة جادة لوضع الشرعية الدولية بين قوسين وإرساء منظومة قانونية بديلة تستجيب لموازين القوى الجديدة.

ونكاد نرى في الأفق تكريساً أبدياً لسياسة المكيالين في النزاعات، وفي الأفق أيضاً مساع محمومة لوأد المنظومة الحقوقية التي انبنت على القانون الدولي، وكذلك محاولات يائسة من أجل الإجهاز على حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، بسبب أنّ بعض الجماعات الإخوانية ولأسباب قد تكون متعلقة بأجندات إقليمية معلومة انقادت إلى مغامرات انفرادية وغير محسوبة العواقب قوبلت في أغلب الأوضاع بردّة فعل وحشية وعقاب جماعي للشعوب.

ومقابل ذلك نكاد نرى في الأفق أيضاً عمليات تصدّ إقليمية ودولية لخلق حالة توازن جديدة في العلاقات الدولية، إن كان ذلك على مستوى اقتصادي أو سياسي، رغم أنّنا نخشى أن يكون ما ذهب إليه المفكر التونسي سليم اللّغماني من أنّ الغرب الليبرالي «أعلن نهائياً حرب الحضارات ضدّ كلّ الحضارات الأخرى دون استثناء»، صحيحاً وصائباً.