جاء في المعجم: (تصنّع الشخص الكرم تظاهر به وهو ليس فيه، وتصنّع الخطيب في كلامه تكلف، تقعر، أسرف في الصياغة اللفظية). أما الاصطناعي فهو المصنوع وليس طبيعياً.
والتصنّع فلسفياً، لمن لا يعلم، هو اعتراف المتصنع ضمنياً بأهمية القيم الأخلاقية والمعرفية، التي لا يحوزها، ويسلك على الضد منها، ولكنه رغبة في الظهور أمام الآخر بما ليس فيه، يتصنع سلوكاً وكلاماً متوافقاً مع تلك القيم التي يعترف بأهميتها لدى الآخر. (يقولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ).
إذاً التصنع نوع من الخداع، مقصوده خداع الآخر بما ليس في الخادع من صفات محدودة.
ولكن ما هو أخطر من التصنع هو الاصطناع، وإذا كان الإنسان قد استطاع بفضل تطور تكنولوجيا الصناعة والتصنيع أن يصنع ورداً وشجراً من مادة البلاستيك، وبكل الألوان والأنواع، ويزين فيها بعض المحال التجارية أو المطاعم، حتى تبدو هذه الورود والأشجار للناظر على أنها نباتات حية، فإن هذا الاصطناع لا ينتج ضرراً أخلاقياً أو جمالياً، وإن المرء ما إن يعرف حقيقة هذه النباتات حتى يقيم انفصالاً عاطفياً وجمالياً معها، وآية ذلك لأنه يحب الحياة الحقيقية.
أما الخطر الأكبر الذي يعبث بالمجتمع فهو خطر إنتاج النخب الاصطناعية التي تتصنع النخبوية.
والنخب، بوصفها، عقل المجتمع، بما تنطوي عليه من ذكاء ومعرفة وخبرة، هي التي تغني المجتمع بالتفكير والقيم المرتبطة بالتطور الخلاق.
وعندي بأن المبدأ الذي يحكم ظهور النخب هو المبدأ الدارويني: البقاء للأصلح. والنخبة هي الفاعلة نظرياً وعملياً. فالجامعة بكل مراحل الدراسة فيها، من الإجازة إلى الدكتوراه، مثلاً، مكان لإنتاج النخب في كل صنوف المعرفة، وعدد الذين يحتلون مكانة خاصة في هذا المجال أو ذاك مرتبط بالأصلح، والأصلح هنا هو الأدهى.
فحاجة المجتمع والدولة للنخب حاجتها للعقل الذي يفكر، النخب عقل الدولة والمجتمع، ولهذا فالنخب سلطة، ولأنها سلطة فيحدث أن تخافها سلطة الدولة، ولما كان لا يمكن لدولة أن تحقق مهامها دون نخبة، فإن خوف دولة ما من النخبة يحملها على اصطناع نخبة قادرة على التحكم بها، ويكون عملها ليس سوى تبرير أيديولوجي، وهذه حال الدكتاتوريات الأيديولوجية وعصبياتها الضيقة.
فتجري عملية احتلال النخبة الاصطناعية لمؤسسات الجامعة والإعلام والقانون، فضلاً عن المداحين من كل الأنواع.
تتميز النخبة الاصطناعية بضعف الكفاءة المعرفية، وغياب حضورها المجتمعي وعدم الاعتراف بها من قبل المجتمع، وعدم الاعتراف هذا يخلق لديها النزعة العنفية تجاه النخبة الحقيقية.
والنخب الاصطناعية كي تخفي ضعفها المعرفي وسلوكها اللاأخلاقي تتصنع الظهور الشكلي وراء لغة شعاراتية زائفة.
ونتيجة لحال كهذه فإن النخبة الحقيقية إما أن تنزوي جانباً، وإما تهاجر حيث تجد لها مكاناً تمارس فيه علمها، ويفقد المجتمع عندها عقله أي نخبته. وفي هذه المناسبة أتذكر قولاً لـ «ت.س إليوت» في كتابه (الثقافة): «إنه لأسهل على بريطانيا أن تخسر الحرب من أن تخسر نخبها».
إن المفكرين والفلاسفة والأدباء والفنانين والعلماء والقانونيين لا يصنعون التاريخ وحدهم، وإنما يشاركون بفاعلية خاصة مع الآخرين، ويزودون إرادة الناس بقناديل تضيء لهم الدروب المعتمة في مرحلة الظلام. فيندرجون في الإرادة الفاعلة دون نزعات فارغة.
وأهم فرق بين النخبة الطبيعية والنخبة الاصطناعية إنما يكمن في مسألة الولاء والانتماء، ففي الوقت الذي يحرك سلوك النخبة الطبيعية الهم الوطني-الاجتماعي وتبني علاقة جدية بالعالم المعيش، فإن النخبة الاصطناعية تتصرف وفق المصالح الفردية الضيقة وتحصر ولاءها مع مَن من شأنه أن يبقيها فيما انتهزت للحصول عليه.
وهنا تكمن الخطورة الناتجة عن احتلال النخبة الاصطناعية لبعض صعد الحياة، أو لمعظمها، إذ يسود عندها الخراب.