يجب أن نعترف بأن الوضع حساس وملتبس، وأن ما يحدث لسكان غزة إبادة جماعية خارجة عن كل القوانين والأعراف والقيم الإنسانية المتعارف عليها في أوضاع الحروب والسلم على حد سواء.

يجب أن نعترف بأن أغلب ضحايا ما يحدث هم من الذين لا يملكون قرار إعلان شن الهجمات والغارات ولا وقفها، ولا إطلاق الصواريخ العابرة والطائرات المسيرة والقذائف الموجهة أو منعها.

يجب أن نعترف بأن قانون نيوتن الثالث للحركة، الذي يقول إن: «لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه» لا ينطبق على الحالة التي أمامنا، فرد الفعل هنا ليس مساوياً للفعل في المقدار، وليس معاكساً له في الاتجاه.

يجب أن نعترف بأن هذه الحرب مختلفة عن كل الحروب السابقة التي مرت على المنطقة، فالدول العربية التي كانت قائمة إبّان الحروب السابقة كانت أفضل حالاً من الدول الحالية التي أرهقتها ثورات ما أسماه البعض «ربيعاً عربياً» تيمناً بربيع براغ، الذي بدأ بالرغبة في الإصلاح وانتهى بالاجتياح، وإعادة تشيكوسلوفاكيا وربيعها الدافئ إلى حضن حلف وارسو البارد.

يجب أن نعترف بأن الذين يدغدغون عواطف الشعوب العربية المحبة لفلسطين وأهلها، ويلهبون مشاعرهم بالخطب الرنانة، ويدعونهم إلى الزحف المقدس إنما يستغلون الموقف ويستثيرون هذه العواطف ويركبون موجة البطولة، لينشروا في وسائط التواصل الاجتماعي مقاطع خطبهم التي يطلقون خلالها السباب والشتائم، ويوزعون فيها شهادات الوطنية وصكوك الخيانة.

يجب أن نعترف بأنه لم ينقسم العرب في حرب من حروبهم السابقة كما هم منقسمون اليوم في هذه الحرب، لا أقصد بذلك الحكومات لأن مواقفها موحدة تقريباً، والاختلاف بينها رحمة، لأنه يخدم القضية بشكل من الأشكال في موقع هنا أو موقع هناك، وإنما أقصد الشعوب، وهذه طامة كبرى، خطرها أكبر من خطر الحرب نفسها، وضررها أكثر من ضرر كل ما جرى حتى الآن وما سيجري لاحقاً.

يجب أن نعترف بأن القضية الفلسطينية ليست وليدة السابع من أكتوبر وأحداثه، ولكنها تمتد حاضراً إلى أكثر من مئة عام، عندما أعطى من لا يملك وعداً بإقامة وطن في أرض فلسطين لمن لا يستحق، فأصبح هذا الوعد حلماً، وتمتد ماضياً إلى مئات الأعوام، ترويها أسفار الديانات التي ظهرت في هذه البقعة، وتاريخ الحروب والصراعات التي جرت بين الذين سكنوا أرضها والعابرين لها والداخلين إليها والخارجين منها.

يجب أن نعترف بأن وضعاً تتفاوض فيه دولة إقليمية غير عربية ذات طموحات توسعية نيابة عن فصيل فلسطيني، وتصبح فيه الناطق الرسمي باسم هذا الفصيل، ويكون قرار التصعيد والتهدئة فيه بيد هذه الدولة، هو وضع يدعو إلى إعادة النظر في كل تاريخ القضية، وفي واقعها الذي يعبّر اليوم عن موقعنا، نحن العرب، من القضية.

يجب أن نعترف بأن دخول هذه الدولة الإقليمية غير العربية على خط القضية، وسيطرتها على فصائل وميليشيات مسلحة، تسمي نفسها مقاومة، في عدد من الدول العربية، هما ثغرة كبرى في جدار الأمن القومي العربي، واختراق خطير لهذا الأمن، كلنا مسؤولون عنه، من شرق الوطن العربي إلى مغربه، لأننا انشغلنا بخلافاتنا وصراعاتنا وشؤوننا الداخلية، وتركنا القضية لمن استثمر كل هذا لصالحه، وخرق جدار الأمن العربي ليجعل لنفسه موطئ قدم بيننا، وتصبح له اليد الطولى في قضيتنا المركزية.

يجب أن نعترف بأن المستفيد الأكبر مما جرى ويجري سيكون هذه الدولة الإقليمية غير العربية التي ستخرج بأكبر المكاسب، وتدع للشعب الفلسطيني الخسائر والمباكي.

يجب أن نعترف بأننا أمة مشحونة من الداخل والخارج، أما شحننا من الداخل فليس له تبرير سوى قصور العقول وقصر النظر، وأما شحننا من الخارج فله تبريرات كثيرة ومنطقية ومعقولة، لكن المحزن هو أننا في مرحلةٍ العقلُ فيها غائبٌ والنفوس فيها مشحونة إلى درجة الانفجار المدمر، ولهذا تغيب الحقائق وتعمى البصائر وتنطلق الألسن بالسباب والشتائم حتى يتسع الخرق على الراقع.

ثمة حقائق كثيرة يضيق المجال عن ذكرها، يجب الاعتراف بها، لكن الاعتراف وحده لا يكفي في وقت المحن والأزمات والفتن.