بدعوة كريمة من «قناة جوليبا» في جمهورية مالي إحدى أهم الشبكات الإعلامية في منطقة الساحل الإفريقي حللتُ ضيفة في البرنامج الحواري الشهير «تمبكتو تناديكم».
ورغم حرصي على معرفة الأسئلة التي ستطرح قبل وصولي إلى استوديو التصوير إلا أنني قطعت دابر ذلك الحرص بعد أن لمست في ملامح فريق الإعداد الإعلامي رغبته في تحويل الحوار إلى لقاء خاص يتجاوز به نمطية البرامج الحوارية ويخترق أفقاً جديداً لفهم محددات الرؤية الخليجية لجمهورية مالي من وجهة نظر باحث خليجي لا يدعي الخبرة بمقدار ما يمتلك القدرة على توصيف الواقع الإفريقي من الداخل ومحاولة نقله للمساحة الفكرية الخليجية التي بدأت تلتمس طريقها إلى قارة المستقبل.
رغم أقدمية الحضور الخليجي في الساحل الإفريقي والتي تعود في عمومها إلى السبعينيات من القرن الماضي إلا أن تلك العلاقات شهدت تراجعاً ملحوظاً في حقبة التسعينيات لدرجة أن بعض النخب الإفريقية أطلقت عليها «حقبة التقاطعات السياسية في الشرق الأوسط» بعد الغزو العراقي لدولة الكويت وإدراك باقي دول الخليج العربي ضرورة تطوير مفهوم جديد للأمن القومي والإقليمي، ولم تكن إفريقيا في ذلك الوقت ضمن الأجندة السياسية الخليجية بالمعنى الذي نفهمه واقتصرت تلك العلاقات على التمثيل الدبلوماسي «المتواضع» وهذا ما يفسر وفقاً لوجهة نظر إفريقية تنامي ظاهرة الاغتراب الثقافي والفكري التي لعبت دوراً في تعزيز أسوار الحواجز النفسية بين المكون الإفريقي والخليجي.
أما اليوم فيرى المكون الإفريقي بشقيه «السياسي والأمني» أن الرؤية المستقبلية الخليجية للقارة الإفريقية لم تدركها دوائر صنع القرار السياسي الإفريقي إلا بعد تدهور الأوضاع الأمنية في اليمن والتي تؤثر بطريقة أو بأخرى على الأمن القومي الخليجي وقناعة الأطراف الخليجية بأهمية دور إفريقيا في تعزيز ذلك الأمن، أضف إلى ذلك تنامي الصراع الدولي على السواحل الغربية والشرقية للقارة الإفريقية التي باتت أكثر انفتاحاً على بكين وموسكو.
ويكفي أن نرى الدور الذي لعبه ميخائيل بوغدانوف أحد أبرز الدبلوماسيين الروس للتقارب مع إحدى الدول الجزرية الإفريقية لإيجاد موطئ قدم لبلاده.
أما ما يتعلق بمنطقة الساحل التي شهدت مؤخراً تطورات مفصلية ستؤثر بشكل جوهري على النمط السياسي المستقبلي للدولة فهي تراقب عن كثب تطورات الصراع الدولي في الشرق والجنوب الإفريقي ولعل الأنظمة السياسية الحاكمة في تلك المنطقة أكثر إيماناً بالحكمة الإفريقية القائلة «يمكنك إبعاد ما يجري خلفك ولكن لا يمكنك إبعاد ما يجري بداخلك» وما يجري داخل القارة الإفريقية اليوم يستدعي الإدراك وسرعة التنفيذ، وهذا ما تحاول بعض الأطراف الدولية الفاعلة في القارة احتكاره، فنظراً للمكانة الدينية والثقافية والسياسية التي تحظى بها مالي إفريقياً وإدراك تلك الأطراف بأن باماكو هي بمثابة العمود الفقري لمحيطها الإقليمي، عملت تلك الأطراف على عرقلة مساعي الرئيس «عاصيمي غويتا» لإنعاش اقتصاد بلاده بدليل إيقاف صفقة «كانكوموسى» الشهيرة التي كانت تمثل طوق نجاة للاقتصاد المالي إلا أن الأموال لم تصل لخزينة الدولة المالية حتى اليوم وتبين بعد ذلك أن الأموال تم التحفظ عليها بالتنسيق مع أطراف إفريقية وجدت في رؤية «باماكو» المستقبلية لمنطقة الساحل تحريراً لواقع طابت نفساً باستمراره فأجمعت أمرها على إجهاض تلك الرؤية من خلال خلق حالة من التوجس بين قادة المجلس العسكري المالي والترويج بالتقارب بين وزير الدفاع «ساديو كامارا» ورئيس جهاز أمن الدولة «موديبو كوني» دون علم الرئيس في محاولة لشق الصف المالي من الداخل وتغذية الصراعات الأمنية في شمال البلاد.
يدرك قادة المجالس العسكرية في الساحل الإفريقي عموماً بأن نجاحهم إلى حد ما في تحجيم النفوذ الفرنسي وانتزاع قبول دولي وإقليمي وفرض مرحلة انتقالية قد تؤهلهم لحكم البلاد في ما بعد لا يعني استمرارهم على رأس السلطة، ولعل ما حدث في أكتوبر الماضي من محاولة استهداف محور«النفيس كيدال» في مالي، و«أرييندا دوري» في بوركينافاسو كفيل بتأكيد ذلك، ويعود ذلك برأيي إلى نجاح باريس في إعادة ترتيب شبكاتها الأمنية والتي باتت اليوم أكثر تنظيماً وأهمها «شبكة باسولي» نسبة لوزير الداخلية البوركيني الأسبق «غبريال باسولي» الذي بات يلعب اليوم دوراً مهماً داعماً لباريس للاحتفاظ بنفوذها، ويكفي بأنه تم اختياره «فرنسياً» باعتباره قناة خلفية في العديد من الملفات الأمنية الإفريقية.
إيماناً مني بأن مستقبل الحضور الخليجي في إفريقيا عامة وفي الساحل خاصة لن يتحقق إلا عبر التقارب الخليجي -الخليجي في كافة الملفات أرى ضرورة العمل على الآتي:
- إيجاد رؤية مشتركة بين أهم الشركات الخليجية الوطنية الساعية للاستثمار في النفط الإفريقي مثل «قطر للبترول» و«أرامكو» السعودية و«أدنوك» الإماراتية ولعل اختيار الأخيرة للمتخصص البوركيني «سانوغو» لتعزيز مبيعاتها هي مقدمة للانخراط في كافة دول الساحل.
- ربط المعاهد العلمية الممولة خليجياً مثل مركز الملك فيصل في النيجر ومعهد زايد التعليمي في مالي بالمؤسسات الأكاديمية الخليجية لتعزيز التقارب الثقافي بين الجانبين، ودعم عمل منظمة حماية التراث والمخطوطات النادرة المالية لما لها من أثر كبير في كسب القاعدة الشعبية الإفريقية.