كثيرة هي المرات، التي نفاجأ فيها بأخبار زائفة، وحكايات بلا أساس عن قوى خفية، تهيمن على الكون صار الناس يصدقونها، ويعتبرونها الحقيقة، التي لا يأتيها الباطل، والإقبال على تلك الأفكار بالغ الخطورة على عافية المجتمعات، وبنائها السياسي والاجتماعي، وفي مثل هذه الحالات ينشغل المعنيون بتفنيد تلك الأفكار والمعتقدات البائسة دون اهتمام كافٍ بالأسباب، التي تدفع الناس لتصديقها، فرغم أن بعضها يدخل أحياناً في نطاق اللا معقول، بينما ينطوي غيرها على تناقضات تدعو كل ذي عقل للتوقف، يصدقها الناس ونادراً ما يقبلون ما يقنعهم بعكسها، لذلك يستحيل أن نضع أيدينا على الطريقة المثلى لإقناعهم دون الوقوف على الأسباب، التي تجعلهم يُقبلون على مثل تلك الأفكار أصلاً، والحقيقة أن الإيمان بمثل تلك الأفكار والحكايات اللا معقولة لا علاقة له بتخلف المجتمعات وتقدمها، فكثيرة هي المجتمعات المتقدمة، التي يؤمن الناس فيها بما هو غير حقيقي، وبوجود مؤامرات لا مؤامرة واحدة عادة ما تتداخل فيما بينها لحد التناقض، فلا يزال هناك من يؤمنون حتى اليوم في بريطانيا بمؤامرات كثيرة حول مقتل الأميرة ديانا، ويؤمنون في الوقت ذاته بأنها حية ترزق في مكان بعيد عن الأنظار.

أما دوافع تصديق الناس فيرجعها البعض للكسل الفكري والعزوف عن البحث عن المعلومات الصحيحة، بينما يرجعها آخرون للجهل، لكن الأبحاث العلمية خصوصاً في علم النفس، تطورت حتى باتت تقدم نظريات متعددة، فالنظرية التقليدية كانت تقول إن البشر يؤمنون بالأفكار، التي تتوافق مع منظومتهم الفكرية أصلاً، وبالتالي يجعل الانحياز الفكري والسياسي المرء يؤمن بما يتوافق مع انحيازاته، وخصوصاً إذا كان مروجها ينتمي لتياره الفكرى ذاته، ويحظى عنده بالاحترام، لكن نظريات أخرى برزت فيما بعد تولي الأهمية لعوامل أخرى، فعلى سبيل المثال أثبتت البحوث التي أجريت على عينات مختلفة أن التفكير وفق منطق سليم هو العامل الحاسم، فالإيمان بمثل تلك الأفكار ونظريات المؤامرة ينبع أساساً من العجز عن استخدام المنطق السليم، وتبين أن الذين يمتلكون منطقاً سليماً قادرون على رفض تلك الأفكار حتى لو اتسقت مع انحيازاتهم أو صدرت عمن يتفقون معهم في الرأي، وهناك أبحاث أخرى لا تنكر دور الانحيازات، ولكنها أثبتت أن السبب، خصوصاً في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، هو أن من يصدقون أفكاراً ومؤامرات تتواتر على تلك الوسائط لا ينبع من التحيزات الفكرية بقدر ما يرجع للسرعة في التصفح، فعدم توقف الفرد قليلاً ليتأمل ما يقرأ يجعله أكثر ميلاً لتصديق ما يقرأه، لكن الاعتماد على علم النفس وحده ليس كافياً لفهم الظاهرة في تقديري، إذ يلزم السعي لفهم تأثير المجتمع والمحيطين بالمرء، فالمحيط الاجتماعي للفرد وضغوط الأصدقاء يدفعه أحياناً لأخذ ما يقولونه كمسلمات لئلا يشذ عن الجماعة.

صحيح أن هناك دوافع نفسية، لكن لا يجوز أن نغض الطرف عن التأثير الاجتماعي، ففي الإيمان بنظريات المؤامرة مثلاً يقول علماء النفس: إن الشعور بعدم اليقين أو بالعجز وقلة الحيلة شعور تكرهه النفس البشرية، ومن ثم يميل الإنسان عندئذ لتصديق وجود قوى خفية شديدة البأس، تعمل في الخفاء، ولها أهداف شريرة، وبينما يرون أن الشخصية النرجسية أكثر ميلاً لنظريات المؤامرة، لأنها تشعر معها بالتفوق على الآخرين بامتلاك معلومات لا يعرفونها، إلا أن علماء الاجتماع يرون أن هناك أسباباً تتعلق بضغوط الأقران والمحيط الاجتماعي، والحقيقة أن علماء السياسة والاجتماع أدركوا تلك الحقيقة، فدرسوا مفهوم «التفكير الجمعي» وتأثيره السلبي على اتخاذ القرار، فالجماعة المغلقة التي يفكر أفرادها وفق المنطق نفسه عادة ما يغذي كل منهما تفكير الآخر، ويؤكده لديه الأمر، الذي يسهل معه على جماعتهم استبعاد الأفكار والبدائل التي لا تتفق مع أفكارهم، وقد درس علماء السياسة التأثير الكارثي للتفكير الجمعي في اتخاذ قرارات أمريكية بائسة في أزمة خليج الخنازير، بل وفي حرب فيتنام، ودلالة ذلك كله أننا في حاجة لمنهج بحثي تكاملي، يجمع خلاصة أبحاث علوم مختلفة، من أجل فهم ظاهرة تصديق قطاعات واسعة في مجتمعات عدة للأخبار الكاذبة، والتي صارت تنتشر كالنار في الهشيم في عصر فوضى المعلومات.