الحزن أمض العواطف الصادقة وأدومها، وآية ذلك إن الحزن الحقيقي هو حب صادق عميق مكلوم منزه عن الغرض.
والحب المكلوم شعور بفقد ما نحب، فكل فقدان لما نحب يولد الحزن، وكل حزن مرتبط بقيمة وعمق ما نحب.
فوداع المحبوب: ابناً، صديقاً، أماً، أباً، حتى لو كان الوداع مؤقتاً فإنه يولد حزناً مطابقاً لمكانة المحبوب في قلب المودع. فشتان بين قوة حزن وداع أم لابنها وقوة حزن وداع صديق لصديقه.
وداع المكان الذي ولدت فيه وعشت فيه يولد حزناً يعبر عنه بالشوق والحنين، والشوق والحنين حالتان من حالات الحزن.
أعرف الحزن بوصفه شعوراً بالألم النفسي الأعمق لا يكون إلا نتيجة فقد من تحب وما تحب، سواء أكان الفقد فقداً دائماً أم مؤقتاً. فموت من تحب أعلى درجات الحزن لأنه حزن على فقد مطلق، فيما الحزن الناتج عن سفر العزيز فهو أخف وطأة على النفس، والحزن الناتج عن فقد المكان الأليف والمولد للحنين حزن ممض، ولكنه قد يهدأ بالتلاؤم مع المكان الجديد.
حديثي في هذه المقالة ينصب الآن عن التعبير عن الحزن والحق في التعبير.
بداية هناك أمر مهم في الحديث عن الحزن، وهو إن الحزن انفعال لا إرادي، وليس قراراً يتخذه المرء الحزين. التعبير عن الحزن لا يصدر عمن لا يشعر بالحزن، بل إن طقوس العزاء ليس سوى واجب تجاه الحزين، والواجب هنا تقليد اجتماعي يخفف من حزن الفاقد، لا يصدر بالضرورة عن شعور بالحزن.
وأكثر الناس يمرون على إعلان التعزية الملصق بوصفه إعلاناً لمن يريد القيام بواجب التعزية. ها نحن الآن في مرحلة صار الحزن فيها خبراً مكتوباً على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل الحزين.
الناس أحرار في الكتابة عن حزنهم، وليس لأحد الحق أن يمنعهم من ذلك. والناس بدورهم أحرار في التعليق، ومن حقهم أن ينتقدوا ما يكتب. لكن الكتابة عن همومك وقضاياك الفردية في وسائل التواصل التي لا شأن للناس بها مسألة لا تجعلك منتمياً إلى الكتابة. ولهذا، فإن الكتابة عن حزنك الخاص في صيغة خبر أو في صيغة كلام حزين، أو في صيغة مدح الفقيد فهذا لا يعني أن القارئ لما كتبت يشاركك حزنك. وقد يقوم بواجب العزاء بالجمل المتداولة اجتماعياً، العزاء بالجمل المتداولة اجتماعياً والتي تعود إلى السلوك المرتبط بالواجب ليس حزناً.
أما لغة الحزن التي تنبع عن حب مكلوم في صور أدبية نثرية وشعرية، وهو ما اصطلح عليه العرب بالرثاء، فتأثيره ينتمي إلى الشعور الجمالي المرتبط بالحزن الكلي القابع في الذات.
غير إن شعر الرثاء العربي لا يصدر دائماً عن شاعر حزين، فهناك أنواع ثلاثة من شعر الرثاء: الرثاء الحقيقي المعبر عن الألم، والرثاء الخطبي في المناسبات، والرثاء الزائف المعبر عن الرياء.
بقي أن نقول: كما أن أحداً ليس من حقه أن يأخذ على أحد حزنه الخاص، ولا أحد باستطاعته أن يمنع أحداً من الحزن، فإنه لا أحد باستطاعته أن يحمل أحداً على مشاركته لأحزانه الخاصة. شتان ما بين ذات وقع عليها الفعل الذي أحزنها، وبين ذات تتأمل حزن الآخر وتتعاطف معه، أو تظهر التعاطف، الأول عميق ودائم والثاني سطحي وعابر. أجل الشعور بالحزن أصدق أنماط الشعور.
الحزن. والحزن لا يقرع باب القلب كي يتسأذن القلب الدخول. الحزن ينبع من عقل معنى
ويحفر مجراه في الصدر، ويقيم في الروح النبيل صديقاً وحباً حميماً هازئاُ بالحكم الخرقاء يأتي خائناً كل الوصايا، صادقاً كزلزال وعميقاً كمحيط .