ها نحن في حوار حول مشكلة فكرية متعلقة بالفرق بين نمطين من الوعي، كلما طرحنا فكرتنا ورأينا في المشكلة جاء رد محاورنا برأي هذا وذاك من أهل الفكر. ونحن على دراية بما قاله هذا المفكر وذاك.
وهذا ما تسميه العرب العنعنة، فالعنعنة هي التعبير عن أسلوب القول عن فلان عن فلان أنه قال. وهذه العنعنة التي عليها جمهور من الكتاب سواء كانت في الخطاب المكتوب أو الخطاب الشفاهي هي شكل من أشكال التبرج.
جاء في المعجم العربي بأن التبرج هو التزين، ولما كان التبرج قد ارتبط بزينة المرأة وإظهار زينتها فقد صار هذا المفهوم دينياً.
ولكن كل تزين هو تبرج، واستخدمنا التبرج بوصفه تزيناً، فسنجد إن الحياة المعيشة ذات حالات عديدة من التبرج.
في هذه المقالة سأتحدث عن التبرج بوصفه مفهوماً عاماً لا ينحصر بزينة المرأة وأطبقه على ما سميته تبرج بعض الكتاب.
فماذا يعني أن يتبرج كاتب ما؟ يعني بأنه يتزين بما ليس له ومنه وبغيره ليبدو ذا شأن، وأنا هنا لا أتحدث عن الأبحاث الأكاديمية حول تاريخ المشكلات والأعلام المليئة بالإحالات المرتبطة بالمراجع والأعلام. بل عن الإشارات التي يستخدمها بعض الكتاب التي تحيل إلى قول من هنا وقول من هناك، وعن حالة تقميش مملة كنت قد كتبت عنها مقالاً.
يبدأ بعضهم كتابته بقال (فلان)، لكن المشكلة عندما يقول الكاتب قال فلان ويكون فلان هذا ليس بقائله.
تأمل معي أيها القارئ هذا القول الذي ينسبه بعضهم إلى ابن رشد: «التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل».
هذه اللغة الصحفية المعاصرة ليست لغة ابن رشد لا من بعيد ولا من قريب، فضلاً عن أن أحداً من المتبرجين بابن رشد لا يذكر مرجعه في كتب ابن رشد أبداً.
وقس على ذلك الذين تعج بكتابتهم وسائل التواصل وتبرجون بقول يُنسب إلى ابن خلدون يقول فيه:
«عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدّعون.. والكتبة والقوّالون.. والمغنون النشاز والشعراء النظّامون.. والمتصعلكون وضاربو المندل.. وقارعو الطبول والمتفيهقون (أدعياء المعرفة).. وقارئو الكفّ والطالع والنازل.. والمتسيّسون والمدّاحون والهجّاؤون وعابرو السبيل والانتهازيون.
يضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء، والمزايدات على الانتماء، ومفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين».
لو فكر من نسبوا هذا القول لابن خلدون قليلاً بهذا النص الذي ينطوي على مفاهيم معاصرة كالإنتهازية والقومية والوطنية لأدركوا من فورهم بأنه ليس لابن خلدون.
وأسوأ المتبرجين على الإطلاق أولئك الذين يكتبون أو يحاورون وبين الجملة والجملة يحشرون فيلسوفاً أو مفكراً كما أشرنا أعلاه. هب إنك في حوار حول مشكلة الحرية وتقدم زاوية رؤيتك من وحي واقعك ومعرفتك وتفكيرك المستقل، فيرد عليك المختلف بما قاله «كانت» و«هيغل» و«سارتر» وسواهم، وعندما تسأل بكل لطف وماذا تقول أنت؟ هذا ليس سؤالاً، هذا احتجاج ودهشة.
فالتبرج بأقوال طغاة القول العظام أو العاديين يجعل المتبرج في أحسن أحواله استاذاً يعرف ما قيل، وهذا مفيد في أحوال التعليم لكنه غير مفيد بالحوار إلا في حدود ضيقة.
إن معرفة تاريخ الأفكار والمفكرين على غاية كبيرة من الأهمية، لأننا نتزود بمفاهيم تساعدنا على الفهم من جهة وتمدنا بقدرة على النقد والتجاوز، من جهة أخرى. أما التجمل بهذا وذاك فهو أقرب إلى الزي الخارجي ولا يقود إلى الإبداع، فالإبداع في الكتابة والأدب والفن ليس سوى إنشاء على غير غرار.