في مدينة بومباي (مومباي)، أو «بمبي» كما ينطقه أهل الخليج، والتي تعد رئة الهند الاقتصادية والتجارية ونافذتها على العالم الخارجي، يوجد العديد من المساجد والجوامع التي تخدم مسلمي المدينة والقادمين إليها من أنحاء البلاد، حيث يشكل المسلمون ما نسبته 14.2 % (نحو 176 مليون نسمة) من مجموع سكان الهند البالغ تعدادهم 1.43 مليار نسمة (وفق إحصائيات عام 2021).

ويعد مسجد حاجي علي من أهم مساجد «بمبي» وأكثرها روعة لجهة تصميمها المعماري الفريد، وهو مسجد تم بناؤه في عام 1431 م من قبل التاجر المسلم «حاجي بير علي شاه بخاري».

غير أن «بمبي» تحتضن أيضاً مساجد أخرى كثيرة، ولا سيما في أحياء العرب القديمة، الواقعة حول شارع «محمد علي رود» وشارع «إبراهيم رحمت الله رود» وشارع «ناجديفي ستريت» وشارع «عبد الرحمن ستريت».

في هذه الشوارع وتفرعاتها، أقام وعمل التجار والطواويش والبحارة الخليجيون من نجد والحجاز والأحساء والكويت والبحرين وقطر ودبي والشارقة وأبوظبي في حقبة ما قبل ظهور النفط في بلدانهم، حينما كانت «بمبي» تسمى «مانشسر الهند» و«درة التاج البريطاني»، بسبب موقعها الاستراتيجي وتقدمها في مختلف المجالات التجارية والصناعية والزراعية والترفيهية والعلاجية، ناهيك عن ارتباطها مع الموانئ العالمية بخطوط بحرية منتظمة وارتباطها ببقية مدن الهند من خلال شبكة من الخطوط الحديدية أقامها الإنجليز في عام 1850، فكانت «بمبي» تحديداً وجهتهم الحصرية لتسويق محاصيل اللؤلؤ واستيراد مختلف أنواع السلع والمواد الغذائية وتعليم أبنائهم اللغة الإنجليزية ومسك الدفاتر.

لقد أسس هؤلاء مجتمعاتهم الخاصة داخل «بمبي» شاملة الديوانيات والمكاتب التجارية والمقاهي والمطاعم الشعبية ودور الضيافة، لكنهم في الوقت نفسه اندمجوا في المجتمع الهندي واستفادوا كثيراً من هذا الاندماج لجهة التعرف على مظاهر التمدن والتحضر والتثقيف الذاتي بما يدور في العالم من صراعات وأفكار حداثية، كما أنهم وثقوا علاقاتهم بالطبقة المخملية الهندية ورجالات الإدارة البريطانية، وعاشوا حياة هانئة وسعيدة في ظل أجواء التسامح والتآلف التي تميزت بها «بمبي» وسائر المدن الهندية في حقبة ما قبل الاستقلال والتقسيم.

وغني عن القول إن اندماجهم هذا واختلاطهم بالهنود انعكس على الكثير من مظاهر حياتهم الخاصة، ناهيك عن انتقال تأثيراتها السوسيولوجية والثقافية إلى المجتمعات الخليجية في صورة الملبس والأثاث والطعام والغناء واللهجات المحكية وغيرها.

أراد الرعيل الأول الخليجي من الذين أقاموا إقامة دائمة في «بمبي» لعقود طويلة أن يردوا بعض جمائل الهند عليهم، فخصصوا جزءاً من ثرواتهم للإنفاق على بناء المساجد ودور الأيتام والمدارس وبيوت الضيافة لعابري السبيل ومتضرري الفيضانات. وكان في مقدمة هؤلاء تاجر اللؤلؤ الحجازي المعروف وعميد الجالية العربية في الهند الحاج محمد علي زينل (1889 - 1969) ونظيره الكويتي الشيخ جاسم محمد الإبراهيم (1869 - 1956).

غير أن هناك من تذكره صفحات التاريخ كأول مواطن خليجي يبني على نفقته الخاصة مسجداً في أحياء العرب في «بمبي» لخدمة مسلميها والجالية العربية عموماً، وهو تاجر اللؤلؤ البحريني المرحوم محمد بن أحمد بن هجرس الذي سيكون محور حديثنا، مستندين في توثيق سيرته العطرة وأعماله الخيرية إلى العديد من المصادر والوثائق، ومنها ما ورد عنه في كتاب صدر حديثاً في المنامة من 319 صفحة من القطع الكبير تحت عنوان «النخبة التجارية البحرينية في الهند من نهاية القرن 19 حتى منتصف القرن 20».

ولد محمد بن أحمد بن هجرس في فريج الزياينة من مدينة المحرق في 1847، وامتهن العمل التجاري في البحرين لبعض الوقت قبل أن يهاجر إلى جنوب العراق ويستقر بالبصرة ويعمل فيها لدى عميد أسرة آل الإبراهيم الكويتية النجدية الأصل، الشيخ جاسم بن محمد الإبراهيم.

كان جاسم الإبراهيم تاجراً ثرياً بلغت شهرته الآفاق من جراء مشاريعه الخيرية وأعماله الإنسانية وبسبب عمله في تجارة اللؤلؤ في الهند التي سافر إليها في مطلع القرن 19 للالتحاق بوالده وعمه اللذين كانا يمارسان هناك شتى صنوف التجارة، ولا سيما تجارة اللؤلؤ، ولعل أبرز دلائل مكانته هو أن ثروته قدرت في عام 1910 بحوالي عشرة ملايين روبية، ناهيك عن قيام الهنود بإطلاق اسمه على إحدى محطات القطار المجاورة لقصرة (محطة منزل جاسم)، ودخوله التاريخ كأول خليجي يزور فرنسا في مطلع القرن العشرين.

وخلال عمل بن هجرس مع الإبراهيم في البصرة، حيث كان الأخير يملك مساحات شاسعة من بساتين النخيل والعقارات، تعلم صاحبنا أصول بيع وشراء اللؤلؤ وسمع الكثير من القصص والحكايات عن مغامرات آل الإبراهيم التجارية في «بمبي»، الأمر الذي شجعه على الذهاب إلى الهند لبدء مغامرة تجارية هناك، لعلها ترفع من مكانته بين قومه وتحقق له ثروة معتبرة.

وهكذا شد الرحال من البصرة، عائداً إلى البحرين لتدبير بعض الأمور والاستعداد للسفر إلى الهند. ولم تمض فترة طويلة وإلا صاحبنا يستقل أحد المراكب الشراعية المتجهة صوب «بمبي» في رحلة استغرقت أياماً عدة وتوقفت خلالها السفينة في أكثر من ميناء.

في «بمبي»، التي لم يكن قد رآها من قبل، تمكن بن هجرس، بما يملكه من مال قليل، من افتتاح محل تجاري في حي العرب بشارع «محمد علي رود»، وراح يعمل ليل نهار ويوثق علاقاته مع أبناء الخليج ممن سبقوه إلى هناك ويستفيد من تجاربهم ويستمع إلى نصائحهم ويتعلم أصول التجارة الحديثة ومصطلحاتها.

وشيئاً وشيئاً نجح الرجل في التحول من تاجر بسيط في رأسماله وعلمه وتجاربه إلى أحد وجهاء البحرين وسط مجتمع الجالية الخليجية في «بمبي». وبسبب أمانته وصدقه واتصافه بمكارم الأخلاق أفاض الله بنعمه عليه حتى صار واحداً من كبار الملاك العرب بالمدينة، وهو ما أكسبه نفوذاً اجتماعياً فوق مكانته التجارية.

كان بن هجرس رجلاً متديناً وقارئاً للقرآن الكريم، ككل مواطنيه ممن تشربوا مبادئ الدين وأحكامه وحفظوا القرآن الكريم وتعلموا القراءة والكتابة في الكتاتيب التقليدية في المحرق، فقرر أن يبني مسجداً في حي العرب (لا يزال قائماً إلى اليوم في 14 Arab Lane) لخدمة المسلمين الهنود والعرب، من منطلق شكر الله على نعمه وطلب الأجر. ولم يكتف الرجل بذلك فحسب، وإنما خصص مجموعة من الدكاكين العائدة ملكيتها له بالإضافة إلى أرض كبيرة كوقف على المسجد. وقام كذلك ببناء مجلس كبير كان يستضيف فيه ضيوفه وأصدقاءه من التجار العرب والهنود وبعض الشخصيات العربية المنفية أو المسافرة عبر الموانئ الهندية.

أما صدقاته للفقراء والمساكين من مسلمي «بمبي» فقد كانت كثيرة ومستمرة طوال العام، ولا سيما في شهر رمضان وعيدي الفطر والأضحى.

واقتدى بن هجرس بما كان يفعله بعض وجهاء العرب في «بمبي» لجهة طباعة بعض المؤلفات العربية على نفقته الخاصة وشحنها إلى الخليج خدمة لطلبة العلم. حيث كانت منطقة الخليج حتى العشرية الثالثة من القرن العشرين تفتقر إلى مطابع تطبع وتنشر ما يحتاجه أهلها، فكان الحل في إرسال المادة المراد طباعتها إلى مطابع إسلامية حجرية في الهند، ودليلنا هو أن أوائل الكتب والخرائط والتقاويم الخليجية خرجت من هذه المطابع، ومنها المؤلف الأهم والأول عن مغاصات اللؤلؤ («خريطة الخليج لمغاصات اللؤلؤ بين السواحل العربية والفارسية» للشيخ مانع بن راشد آل مكتوم)، وأول كتاب عن أوزان اللآلئ وأصنافه («اللآلئ» لمحمد عطاء الله القاضي)، وأول كتاب خليجي عن مناسك الحج والعمرة (الغرر النصائح، الجالبة لكل قلب عن السبيل جانح) وأول كتابين مطبوعين في عهد الدولة السعودية الثالثة («عقد الجواهر» و«تحفة الناسك»).

وهكذا أنفق الرجل من حر ماله على طباعة مجموعة من الكتب العلمية والأدبية في الشعر والفقه والعقيدة من خلال المطابع الإسلامية في الهند في الفترة ما بين عامي 1887 و 1913 وأتاحها مجاناً لطلبة العلم وهواة القراءة داخل الهند وخارجها. ولعل من أهم هذه الكتب كتاب «نظم العمروسي» الموسوم بـ «أوضح المسالك على مذهب الإمام مالك».

عاش بن هجرس، كغيره من تجار الخليج، في «بمبي» طويلاً، وخلال الفترة التي قضاها هناك تزوج وأسس أسرة ورزق بالبنين والبنات، وربطته علاقة صداقة وعمل وثيقة مع التاجر والوجيه النجدي الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالله الفوزان، ثاني وكلاء الملك عبد العزيز آل سعود في الهند من بعد الشيخ إبراهيم بن عبدالله الفضل.

وقد ترسخت علاقتهما أكثر بعد عملية مصاهرة تمت بين الرجلين. فالشيخ الفوزان كان قد تزوج من ابنة عمه لطيفة بنت عبد اللطيف بن عبدالله الفوزان إبان إقامته في الكويت أي قبل انتقاله إلى مدينة كلكتا في عام 1886 للإتجار باللؤلؤ وتوريد التمور للأسواق الهندية وتصدير المواد الغذائية والأخشاب والأقمشة منها إلى نجد والكويت وعدن وبربرة.

وبسبب بروز «بمبي» كميناء تجاري أكثر أهمية وأقرب إلى موانئ الخليج العربية، نقل الفوزان تجارته إليها متخذاً من «شارع ناجديفي ستريت» بحي العرب مقراً لمكاتبه ومعاملاته، وهناك تعرف على محمد بن هجرس وأسرته فطلب من الأخير الاقتران بابنته الكبرى «هيا» التي أنجبت للشيخ الفوزان يوسف وعلي وعبد الوهاب ورقية وعائشة ومضاوي وأمينة الذين نشأوا جميعاً في بمبي ودرسوا في مدارسها فأجادوا الهندية والإنجليزية والفارسية وتشربوا الثقافة والفلسفات الهندية.

هذا علماً بأن الابن الأكبر للفوزان من زوجته البحرينية هيا وهو «يوسف بن عبدالله الفوزان»، تقلد مناصب دبلوماسية رفيعة في كل من البصرة وفلسطين قبل صدور مرسوم ملكي بتعيينه كأول سفير للسعودية لدى الهند بعد استقلال الأخيرة سنة 1947. وقبل وفاته عام 1977 كان يوسف الفوزان قد خدم كسفير للسعودية في كل من طهران ومدريد أيضاً.

وبن هجرس من ناحية أخرى يعتبر جداً (من ناحية الأم) لأبناء تجار كويتيين معروفين كانوا يقيمون في الهند، حيث تزوجت حفيدته رقية عبدالله الفوزان من رجل الأعمال الكويتي محمد المرزوق، وتزوجت عائشة عبدالله الفوزان من التاجر الكويتي صالح العلي الشايع، واقترنت مضاوي عبدالله الفوزان بالتاجر الكويتي سليمان الهارون. إلى ذلك، زوج بن هجرس ابنته الثانية «حصة» إلى مواطنه تاجر اللولؤ البحريني المعروف محمد بن علي بن إبراهيم الزياني المقيم في الهند، فأنجبت حصة للزياني أكبر عدد من الذرية ممن صاروا أبناء خالة للسفير السعودي يوسف الفوزان وأشقائه وشقيقاته.

في عام 1920م، وبعد رحلة طويلة في دروب التجارة وبذل وعطاء وأعمال جليلة في سبيل البر والإحسان، انتقل بن هجرس إلى جوار ربه في «بمبي»، المدينة التي عشقها وشهدت أجمل سنوات عمره وأسس بها أسرته، بعيداً عن وطنه لكن وسط جمع من أصدقائه ومعارفه وأحبابه الكثر من أبناء الخليج بضفتيه ومسلمي الهند الذين شيعوه بعد الصلاة عليه في مسجده إلى المقبرة الإسلامية في «بمبي» حيث ووري الثرى، رحمه الله. وحيث دفن لاحقاً صهره الشيخ الفوزان الذي وافته المنية أيضاً في «بمبي» سنة 1960 عن عمر تجاوز المائة سنة.