هناك من أعلام الجزيرة العربية من ارتبط بالقلم منذ بواكير صباه ارتباطاً وجدانياً، فتبادلا العشق وراحا يحلقان معاً في دنيا الأدب والصحافة والتاريخ يسكبان المداد في مجلدات ومؤلفات شعراً ونثراً ووصفاً وتحليلاً.
أحد هؤلاء رجل الدولة السعودي، ابن مكة المكرمة، الشاعر والأديب والناثر والمؤرخ والصحفي الشيخ فؤاد شاكر، الذي يعد واحداً من رجالات الدولة السعودية ممن رافق الملك عبدالعزيز آل سعود في زياراته الداخلية والخارجية وحضر اجتماعاته مع نظرائه من القادة العرب والأجانب بحكم وظيفته رئيساً للتشريفات الملكية التي كان مطورها وثاني شخصية تتولى رئاستها.
أبصر فؤاد بن إسماعيل بن شاكر النور في مكة المكرمة في سنة 1905، ابناً لوالده الذي كان من علماء الحرم المكي وممن يعود نسبهم إلى الدوحة النبوية الشريفة عبر سبط الرسول صلى الله عليه وسلم، الحسين بن علي بن أبي طالب.
وترعرع شاكر ونشأ في أجواء مكة الروحانية فاكتسب منها صفات الورع والاستقامة والفضيلة معطوفة على الصفاء والطمأنينة والسكينة التي ساعدته بدورها على تنمية ميل ظهر عليه مبكراً نحو الأدب والشعر والكتابة، أما تحصيله العلمي والمعرفي فقد بدأ بتلقيه التعليم الابتدائي في المدرسة الرشيدية مع تلقيه دروساً في الحرم المكي على يد والده وبعض علماء الحرم الآخرين، علماً بأن المدرسة الرشيدية مدرسة ابتدائية أنشأها الأتراك العثمانيون في أوائل القرن 13 للهجرة، وتغيرت تسميتها في سنة 1335 إلى المدرسة الهاشمية مع تعريب مناهجها من التركية، وأغلقت في سنة 1342 للهجرة.
وفي سنة 1928م التحق بأول بعثة تعليمية سعودية متجهة إلى القاهرة التي أكمل تعليمه فيها وتخرج متخصصاً في الأدب العربي، وهو التخصص الذي وافق ميوله الأدبية والشعرية المبكرة.
ومما لا شك فيه أنه استفاد استفادة جمة من دراسته ووجوده في القاهرة، كيف لا والقاهرة كانت في تلك الفترة تعج بأعلام الفكر والأدب والشعر والثقافة والفنون والصحافة، وتموج بالمعارك الفكرية وتتباهى بالصالونات الأدبية، ما أتاح له التعرف إلى أدباء وشعراء كبار من أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وعباس محمود العقاد وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين والأديب الألمعي أحمد حسن الزيات (مؤسس مجلة الرسالة)، والاقتراب منهم والاستزادة من علمهم وتجاربهم.
وهذا بدوره عزز عشقه للقلم والكتابة فبرز كاتباً للمقالة الصحافية وناظماً للقصائد ومؤلفاً للكتب وأديباً لا يشق له غبار وزميلاً لأعلام زمانه من أدباء ومثقفي مصر ولبنان وسورية، وعاشقاً مخلصاً لمصر ورموزها وصحافتها.
حاول شاكر نقل ما اكتسبه من تجارب صحفية وأدبية في مصر إلى وطنه السعودية بعد عودته إليها، وخصوصاً أنه في أثناء وجوده في مصر عمل في صحيفة «كوكب الشرق» المصرية، بل أسس هناك صحيفة «الحرم» التي ظل يصدرها ويديرها على مدى أربع سنوات ما بين سنتي 1930 و1934، وكانت حلقة وصل بين الطلاب السعوديين وبلادهم ومرآة تبرز آراءهم.
وقد دان له ما أراد أولاً حينما تسلم رئاسة تحرير صحيفة «صوت الحجاز» في سنة 1350 للهجرة سنة واحدة عاد بعدها إلى مصر لاستئناف دراسته وأعماله الصحفية، علماً بأن تلك الصحيفة تعد الثانية في العهد السعودي وكان اسمها «القبلة» ثم «بريد الحجاز» في العهد الهاشمي.
ودان له ذلك المرة الثانية حينما تم تعيينه في سنة 1355 للهجرة بخطاب رسمي من الملك عبدالعزيز رئيساً لتحرير صحيفة «أم القرى» الرسمية براتب 1500 قرش. والمعروف أن «أم القرى» التي أسسها الملك عبدالعزيز أول دخوله مكة في سنة 1343 للهجرة الموافقة لسنة 1924 صحيفة أسبوعية معنية بنشر المراسيم الملكية والأنظمة وقرارات مجلس الوزراء.
وكان شاكر ثالث رؤساء تحريرها من بعد يوسف ياسين ورشدي صالح ملحس ومحمد سعيد عبدالمقصود، وظل رئيساً لتحريرها سنوات طويلة تولى فيها أيضاً مسؤولية تحرير صحيفة «البلاد السعودية» (صوت الحجاز سابقاً) اليومية من سنة 1357 وحتى سنة 1372 للهجرة.
ولئن كانت تلك الفترة من حياته التي قضاها في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة خصبة وثرية وزاخرة بالتجارب والمسؤوليات، إلا أن المنعطف الأبرز في حياة صاحبنا، حدث في سنة 1364 للهجرة، حينما وقع اختيار الملك عبدالعزيز عليه ليتولى رئاسة التشريفات الملكية، وهو جهاز كان يعرف حينها باسم «الضيافة الملكية» ويتبع وزارة المالية ووزيرها الشيخ عبدالله السليمان الحمدان (1884 ــ 1965)، فكان أول رئيس له هو «إبراهيم بن جميعة» من أهل حائل ومن رجالات الملك عبدالعزيز الأوفياء، وجاء شاكر ليخلفه ويواصل مهامه، فأبلى بلاء حسناً على مدى ثماني سنوات كان فيها يستقبل ضيوف الدولة القادمين من الخارج ويهتم بشؤونهم ويرتب اجتماعاتهم مع ملك البلاد ويودعهم.
والحقيقة أن اختيار الملك عبدالعزيز له ليشغل هذه المهام الحساسة لم يأتِ من فراغ، وإنما جاء بناء على ما سمعه عن علمه وصفاته وسيرته وجهوده صحفياً متمرساً وشخصية مثقفة وسليل أسرة حجازية شريفة وصاحب علاقات متشعبة مع أعلام الداخل والخارج.
ومن جانبه، كانت التشريفات الملكية بوابة لشاكر للاقتراب من مليكه والتعرف من كثب إلى شخصيته وطباعه وسجاياه وحياته وبرنامجه اليومي الرسمي سواء في إقامته أو سفره أو تنقلاته أو استقبالاته أو اجتماعاته، وذلك بحكم ملازمته للملك في حله وترحاله وتسلم التوجيهات منه وترتيب لقاءاته الرسمية، ومنها لقاؤه التاريخي بالملك فاروق الأول ملك مصر والسودان في سنة 1946.
ومن هنا نجح شاكر في إصدار كتابه الأثير الموسوم «الملك عبدالعزيز.. سيرة لا تاريخ»، وهو كتاب، ظهرت طبعته الأولى في سنة 1975 أي بعد وفاة المؤلف وسجل فيه بعضاً من ذكرياته وانطباعاته عن مليكه من موقع العارف والشاهد والراصد للكثير من الأحداث والمواقف والذكريات التاريخية ذات الصلة بسيرة الملك عبدالعزيز الذي أوجز شاكر محبته له في البيتين التاليين:
برؤياك فزّت في العيون النواظر
ودقت بأكتاف الربوع البشائرُ
ورفرفت الأفراح في كل منزل
وفاضت بأفنان الحبور السرائرُ
عن هذا الكتاب، كتب صلاح الزامل في مقال له في صحيفة الرياض (2/8/2019)، نقلاً عن الأديب السعودي عبدالعزيز الرفاعي ما مفاده أن عمل شاكر في القصر الملكي رئيساً للتشريفات الملكية، أو ما يعرف اليوم بالمراسم الملكية، جعله أكثر التصاقاً بصاحب القصر، وأعرف بزواره، وأدرى بالطريقة التي يستقبل بها الملك أولئك الزوار على اختلاف طبقاتهم، فوجد نفسه يمضي في تسجيل ذكرياته، من دون أن يخوض في أحداث التاريخ وقصص البطولات والفتوحات وتحليلها لأنه لم يكن متفرغاً لهكذا عمل، ولم تكن ظروفه تتسع لهذا اللون من الكتابة.
وبمعنى آخر أراد الرفاعي أن يقول إن كتاب شاكر لم يكن سوى ذكريات وانطباعات لا غير وليس تاريخاً، وهو لم يتممها للأسف لأن المنية أدركته، ولكن ما كتبه من وحي أوراقه الخاصة فيه فائدة تاريخية من دون أدنى شك.
بعد السنوات الثماني التي قضاها مسؤولاً عن التشريفات الملكية، عاد شاكر إلى بلاط صاحبة الجلالة الصحافة بإسناد رئاسة تحرير صحيفة البلاد اليومية إليه في سنة 1375 للهجرة (1955م)، فاستمر في منصبة هذا حتى سنة 1380 (1960) حينما انتقل للعمل رئيساً للتشريفات والبروتوكول في رابطة العالم الإسلامي.
وبعد خمسة أعوام، وتحديداً في سنة 1385 (1965) أسندت إليه رئاسة تحرير صحيفة «أخبار العالم الإسلامي» الأسبوعية الصادرة عن رابطة العالم الإسلامي باللغتين العربية والإنجليزية بتكليف من الأمين العام للرابطة آنذاك الشيخ محمد سرور الصبان.
في خضم مسؤولياته ومهامه المتشعبة، لم ينسَ شاكر قلمه وظل مخلصاً له ومتسلحاً به، بدليل إصداراته المتنوعة التي اشتملت على المؤلفات التالية: صور الحياة (صدر في القاهرة في سنة 1929)، أدب القرآن (صدر في مكة في سنة 1939)، غزل الشعراء بين الحقيقة والخيال، أحاديث الربيع (صدر في القاهرة في سنة 1943)، رحلة الربيع (صدر أولاً في القاهرة في سنة 1943 عن مطبعة الحلبي ثم طبع في مطبعة تهامة في سنة 1983 وأخيراً صدر في سنة 1999 عن دارة الملك عبدالعزيز، وفيه وصف لرحلة قام بها المؤلف في سنة 1360 من مكة إلى روضة الخفس، حيث قابل الملك عبدالعزيز، ومنها إلى الخرج والرياض)، دار الأيتام والصنائع بمكة (صدر في القاهرة في سنة 1943)، تخليد ذكرى إنشاء السد السعودي (كتاب طبعه على نفقته الخاصة بالقاهرة في سنة 1943)، للوفاء والذكرى (كتاب أصدره في القاهرة في سنة 1943 وفاء لصديقه جميل داود المسلمي)، دليل المملكة العربية السعودية (أصدره في القاهرة في سنة 1948)، حدائق وأزهار (أصدره في القاهرة في سنة 1950)، رحلات في ميداني العمل والجهاد (أصدره في القاهرة في سنة 1954)، الملك سعود في أحاديثه وخطبه (أصدره في القاهرة في سنة 1955)، حي على الصلاة (ديوان شعر أصدره في مكة في سنة 1956)، من أمجاد الثقافة العربية (سلسلة أصدرها في جدة في سنة 1958)، وحي الفؤاد (مجموعة قصائد شعرية من نظمه أصدرها في جدة في سنة 1967)، علاوة على كتاب «الملك عبدالعزيز.. سيرة لا تاريخ» سالف الذكر.
نظم شاكر قصائد كثيرة نشرها في دواوينه وفي المجلات الأدبية المصرية واللبنانية والسورية، ومنها قصائد عديدة في الملك عبدالعزيز، فأطلق عليه بعضهم لقب «شاعر الملك» أما الذين تناولوا شعره بالدراسة فقد أجمعوا على أنه يمتاز بالقوة في السبك والجزالة في اللفظ والانسياب في الشكل والصورة والأسلوب، مشيرين إلى أن الرجل كان متمسكاً بقوة بالشعر التقليدي المنضد الفصيح ومدافعاً صلباً عنه في وجه مروجي الشعر الحر الذين وصفهم بعصابة تتبنى التهريج بدليل قوله:
لقد روع الشعر الأصيل عصابة
تأولت الشعر الفصيح المنضدا
أولئك من ظنوا القديم خرافة
ومن زعموا التهريج فناً مجددا
في العاشر من يناير من سنة 1973م أغمض شاكر عينيه ورحل بمدينة جدة عن عمر قارب سبعين عاماً، مخلفاً وراءه سيرة عطرة وثمانية من الأولاد (عصام وعادل ومحمد وعدنان ونزار وعزة ومي ونورة)، علماً بأن ابنته عزة فؤاد شاكر (ت: 2011) كانت من أوائل اللواتي عملن بالإذاعة السعودية وقت افتتاحها، كما ورثت عن والدها موهبة الشعر فكانت اسماً شعرياً معروفاً في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين بعد صدور ديوانها الموسوم «أشرعة الليل» في سنة 1977 وكذا ابنته الأخرى منى فؤاد شاكر التي دخلت أيضاً المجال الإعلامي وكانت من ضمن مذيعات إذاعة جدة الأوائل.
ومما يسجل لأولاد الفقيد أنهم شاركوا في تخليد ذكرى والدهم وما تميزت به شخصيته من كرم وتسامح وبساطة وقوة مراس وسعة أفق وعلاقات طيبة بجميع الناس، وذلك بإصدار مؤلف عنه من 625 صفحة من القطع المتوسط تحت عنوان «فؤاد شاكر رجل التشريفات والأدب»، مسترشدين في عملهم بالوقائع التاريخية والصحفية.
وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن الفقيد حظي بالتكريم بحصوله على العديد من الأوسمة والنياشين العربية والأجنبية، وإطلاق اسمه على أحد شوارع جدة، ناهيك عن تكريمه في الدوحة في مارس من سنة 2009 من قبل اتحاد الصحافة الخليجية ضمن 40 شخصية من رواد الصحافة السعودية.