أراد السلطان سليمان القانوني أن يعيد بناء إحدى السرايا القديمة، فقام بتكليف المعماري الشهير سنان باشا بتلك المهمة، ولكثرة متابعته لسير العمل فقد استرعى انتباهه قيام سنان باشا بتغيير المجموعة الأولى من العمال، والتي قامت بهدم السرايا القديمة بمجموعة مختلفة تماماً، فأمر باستدعائه وسأله عن ذلك، فقال له المعماري الذكي: «يا سيدي، إنّ من يصلح للتدمير لا يصلح للتعمير»!

تبدو المعلومة بسيطة وبديهية، لكنها تَعْسُر على البشر وعلى الحُذّاق أيضاً، حتى لَيُخَيَّل إليَّ أحياناً أنَّ هناك فجوة وعي بين ما نعلم وما نشاهد أمامنا، فيصعب على البعض إسقاط القاعدة على الوضع القائم، ولو لم تكن هناك فجوة لما رأينا هذه الصدمات لدى البشر مما نرى ونشاهد وما كشفته أحداث غزة المأساوية خلال أيامها التي جاوزت المئة!

لن أتحدث عن جرائم الصهاينة واستهدافهم المتعمد للمدنيين، ولن أكتب عن نيتهم المُبَيَّتة مع كامل الإصرار على عدم استثناء أي أحد من آلاف الأطنان من المتفجرات والقنابل المحرمة دولياً التي كانت تنهال دون توقف طيلة هذه الشهور الطويلة على رؤوس المدنيين العُزَّل، فلا نرى إلا جثثاً متفحمة وأشلاء ممزقة لأبرياء وأطفال ونساء وشيوخ، مع تمالؤٍ غربي ومناصرة فجة لهذا الإجرام دون حياء!

لا يكترث ساسة الغرب، وأمريكا أولهم، بسقوط قرابة 30 ألف شهيد وأكثر من 60 ألف جريح، وهدم كلياً أو جزئياً ما يزيد على 360 ألف وحدة سكنية ومئات المستشفيات والمدارس ووحدات الدفاع المدني وتدمير واسع للبنية التحتية للقطاع، كل ذلك لا يحرك ساكناً لدى أولئك الساسة وإعلامهم الموجّه، وهو أمر يصعب فهمه على من يحمل مثقال ذرّة من إنسانية أو رحمة.

لذلك لم يكن مستغرباً ذلك الغضب الكبير الذي اجتاح قطاعات كبيرة من شعوبهم وتنديدهم بتلك الجرائم وموقف حكوماتهم الذي لا يُمثِّل الرأي العام لتلك الشعوب وسقوطها الذريع في اختبار القيم والمبادئ التي طالما تشدّقت بها!

لم يخطئ من سمّاها غزّة الكاشفة، فقد كشفت نفاق الغرب وسقط قناعه الذي غشّنا به طويلاً، فالعدالة تسقط لديه إن كانت ضد مصالحه أو صالح أتباعه، والقيم الإنسانية العليا لا مكان لها عندما يكون هواه على خلافها، وسلاسل المقاهي التابعة له .

والتي تؤكد ليل نهار أنها لا تستغل الأطفال في زراعة المحاصيل ولا تلوّث المياه، نجدها لا تخجل من دعم مذابح الإبادة هذه بل وتقدم المعونات المالية من أجل مزيد من عمليات القتل الممنهجة، وجمعيات البيئة والحفاظ على الأنواع النادرة من الأحياء الحية والتي تتباكى على شبه انقراض نوع من الصراصير لا نسمع لها همساً في التنديد بإبادة شعب كامل على مرأى من الدنيا، أي فجور بلغه هؤلاء!

ما أتت به أحداث غزة من إعادة وضع القضية الفلسطينية ومأساة هذا الشعب الباسل في بؤرة الأحداث، وكشفها لكل ما كان يجري من جرائم وانتهاكات طيلة هذه العقود السبعة في تعتيم إعلامي، وهو الأمر الذي قلب الرأي العام العالمي «الشعبي» ضد الحكومة الصهيونية، وكل من يدعمها من ساسة الغرب.

وما استدعاه صمود الشعب الفلسطيني وصبره من بحث الآلاف المؤلفة حول العالم عن دين هذا الشعب الذي أوجد لهم هذا الثبات العاطفي المذهل ودخول أعداد كبيرة للغاية في الإسلام جراء هذا البحث، إلا أن كل ذلك لا بد أن لا ينسينا النقطة الأهم وهي: المأساة نفسها!

كتب أحد أهالي غزة كلاماً ينفطر له القلب لا أذكر نَصَّه، ولكن أتذكر معناه وهو يقول إنّه يقرأ فخر المسلمين والعرب وأحرار العالم بصمودهم، وكيف يكيلون لهم المديح، ويدعون لهم بالانتصار وانحسار الظلم و القهر عنهم، وكأنّ الناس يريدون إراحة ضمائرهم وإسقاط العتب عنهم في خذلانهم لإخوانهم بالدعم الإنساني، وإحراجهم لأولئك المرابطين الصابرين بأن لا يستطيعوا طلب العون وهم يسمعون ذاك الثناء!

لا عذر لأحد بأن لا يمد يد المساعدة لهم، بلقمة طعام أو شربة ماء أو قطعة ثياب أو فضل كساء، فليس لهم بعد الله أحد سوانا، فالوقت وقت تراحم لا وقت لوم، فساسة الغرب قد وضح موقفهم وأعلنوه دون خجل، هم مع القتل والدم والتهجير والانتقام، تعرف كبيرتهم أنها قامت على أشلاء سكانها الأصليين، فكيف نتوقع أن تأسى لحال شعب يُقتّل ويُهجَّر من صنيعتهم، وأنّى يأتي خير ممن لا يعرفه وكيف تأتي الرحمة ممن لا يعرفها، إنّ من يصلح للتدمير لا يصلح أبداً للتعمير!