الاتهام الذي وجهته جنوب أفريقيا إلى إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، بانتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، ألقى حجراً كبيراً في بركة الأبعاد الحقوقية للقضية الفلسطينية، التي كادت تأسن لطول هجرانها وطيها تحت السجاجيد.. فعندما يقلب قضاة المحكمة ملف الدعوة، سيضطرون للاستطراد إلى تفصيلات تؤكد أن ما جرى ويجري في سياق موقعة غزة، ليس منبت الصلة بظلامة الفلسطينيين الممتدة، ولم يبدأ بأحداث السابع من أكتوبر، كما تقول الرواية الإسرائيلية المبسترة.

إذا ما حدث ذلك، وحدوثه أمر شبه منطقي، سيتيقن الكثيرون في عالمنا أن موضوعة الإبادة في غزة، ليست سوى الرأس الطافي لجبل ضخم من السوابق المماثلة، التي راكمها سلوك إسرائيل، أيام أن كانت مجرد مشروع هائم، ثم بعد أن أضحت دولة قائمة على سوقها.

فكرة فتح دفاتر إسرائيل، بما تحويه من انتهاكات، قديمة لا تسقط بمرور الزمن، ومعاصرة منظورة بالصوت والصورة، تبدو مفهومة ومرشحة للنبش والشيوع والتداول، في إطار أعمال المحاكمة العتيدة.. لكن ما يستحق الانتباه بالتوازي والتزامن الاعتقاد الذي تشي به النظرة البانورامية الأوسع والأعمق، بأن خطوة بريتوريا الجريئة، ربما ذهبت بتداعياتها وتوابعها إلى ما هو أبعد من كسر دائرة الجمود القانوني، المغلفة فقط للتعامل الإسرائيلي مع شعب فلسطين. القصد، أننا إزاء خطوة من شأنها نفخ بعض الروح في كلمة القوانين الدولية، بكل أنماطها والتنظيمات الراعية لها والساهرة عليها.

توقيت الدعوة هنا له مغزاه ومعناه.. فهي تأتي في سياق عصف إسرائيلي قائم فوار، بالغ العنف والضراوة، غير محدد السقوف والقيعان، ولا يأبه لأي نداء بالتوقف والكف من منطلقات إنسانية أو أخلاقية أو حقوقية.. وعطفاً على هذه المواصفات غير المسبوقة، تردد في الكثير من الأوساط المعنية جهرة وخفية، بأن «المجتمع الدولي» إزاء نموذج يخرق الأعين للتمرد على الشرائع التي أقرتها وتعاقدت عليها «الأمم المتحضرة».

ومما قيل ويقال في ذلك، عن حق، أن ما يتم قصفه وتدميره في غزة بحيثية عشوائية، يطال أيضاً هذه الشرائع، ويفسد ما تبقى لكوكبنا من بطانة أو بضاعة حقوقية، يستعان بها على إقرار السلم والأمن، حين تتعارض المصالح، وتتعقد الأزمات وتحتدم الصراعات.

باستدعائه لمحكمة العدل، وتشغيل مرجعيتها في المأساة الفلسطينية، بدا القاضي الأفريقي وكأنه ينبري للدفاع عن الموروث الحقوقي الدولي بلغة صارمة بالغة الحذق والحرفية. وتكتسب هذه الانعطافة وجاهتها من تعرضها وإلقائها القفاز في وجه إسرائيل بالذات، كونها أكثر أعضاء المنظومة الدولية استحقاراً لهذا الموروث.. وفي ذلك رسالة إلى من يقعون في مراتب أدنى على سلم الاستحقار والعصيان والاستهانة بعالم القانون والنظام.

من مفارقات هذه الانعطافة أيضاً، أنها جاءت بالتزامن تماماً مع اللحظة التي أوشك فيها انعدام الثقة في كلمة التنظيمات والقوانين والقرارات الأممية على تجاوز الخطوط الحمراء.. إنها اللحظة التي أوحى فيها السلوك الإسرائيلي المنفلت، في غزة وبقية الرحاب الفلسطينية، إلى عناصر كثيرة في «المجتمع الدولي»، بالتفكير في تحسس مدافعهم، كأداة أولى، عوض أن تكون الأخيرة، لصيانة مصالحهم، وربما وجودهم ذاته.

ولو مددنا هذا النمط من التفكير على استقامته، لوجدنا أنفسنا في أقرب نقطة من الانتكاس إلى عالم تسوده شرعة الغاب. ونحسب أن أحفاد مانديلا ساهموا بقوة في محاولة «فرملة» الانجراف إلى هذا المصير الموحش، كونهم ذكروا الكافة بأن لديهم وسائل سلمية مأمونة وعقلانية، يستطيعون تفعيلها لصيانة المصالح والوجود.

واقع الحال، أن الأفريقي المطبوع على مغالبة شياطين الإنس بالصبر والتسامح، والأخذ بناصية القانون، نجح حتى الآن في جر الإسرائيلي المنتشي بأدوات القوة العارية إلى لاهاي.. وأدى مشهد الأخير، وهو يتلعثم دفاعاً عن نفسه في دائرة الاتهام أمام المحكمة المهيبة، إلى إطلاق ألسنة عواصم ورموز دولية أخرى طال صمتها، لتحذو حذو الأفريقي الحكيم، وتؤازره في الاتجاه ذاته.

ينبغي في كل حال أن نتروى ونصطبر كثيراً قبل ظهور نتائج هذه المواجهة.. بل ربما تعين علينا ألا نستبعد لجوء إسرائيل، التي تتميز الآن غيظاً، إلى طريق العصيان الحقوقي، وصولاً إلى مقاطعة المحكمة من الأصل..لا سيما أن الظهير الأمريكي الذي أعانها طويلاً في هذا الطريق، ما زال حفيظاً على عهوده معها. لكن المؤكد أنه، حتى لو أنها لاذت بهذا الخيار الهروبي، فإن صورتها وحضورها وروايتها وطبائع العلاقة معها، على الصعد الإقليمية والدولية، لن يعودوا إلى ما كان عليه الأمر قبل يوم لاهاي المشهود.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني