كتب أبو حيان التوحيدي في كتابه الصداقة والصديق على لسان أبي سليمان يقول:

وأما الكتاب وأهل العلم فإنهم إذا خلوا من التنافس والتحاسد والتماري والتماحك فربما صحت لهم الصداقة وظهر منهم الوفاء، وذلك قليل، وهذا القليل من الأصل القليل. (انظر: أبو حيان التوحيدي: الصداقة والصديق، ص33، دمشق، 1998).

والحق أن هذه الفئة من الناس هي التي حملتنا على أن نكتب هذا المقال، فهي أقل الناس حفاظاً على الصداقة، وبعد:

لو تركنا جانباً علاقات صلة الرحم بين الآباء والأمهات، وبين الأولاد والأحفاد، فإن الصداقة من أجمل العلاقات بين البشر وأعمقها وأصدقها، بل إن بعض أنماط الصداقة تتفوق على العلاقات بين الإخوة. وسؤالي: ما هي الثقافة هذه التي أنتجت قولاً صار بمنزلة الحقيقة، هو: المستحيلات ثلاثة: الغول والعنقاء والخل الوفي؟

أن تنظر ثقافة ما إلى استحالة وجود صديق وفيّ يدل على هشاشة القوة الأخلاقية لهذه الثقافة والمنتمين إليها.. لماذا؟

إذا عرّفنا الصداقة بأنها علاقة تقوم على المحبة بين الأنا والآخر، منزهة عن الغرض والمصلحة، فإن هذا التعريف الصحيح يجعل من الصداقة مصدر سعادة يشعر بها الأصدقاء. تنتج الصداقة جملة من العلاقات الخاصة بين الأنا والآخر مختلفة عن أي علاقات أخرى، كعلاقات القرابة والزمالة والجيرة والعمل المشترك.

فالصديق هو ذلك العقل العاطفي الذي يصبح خزان سر الأنا، إذ يبوح الصديق لصديقه بما لا يمكن البوح به للآخر خوفاً من الانكشاف. ولأن السر هو سلوك أو فكرة أو معتقد خاص جداً فإنه يظل يعتمل في صدر صاحبه حتى يجد صاحب السر متنفساً له عند الصديق.

وهناك أمور كثيرة متعلقة بأهمية الصداقة، القارئ على دراية بها، كما أنه على دراية بخيبة الأمل بسلوك صديق يتناقض مع منطق الصداقة، الذي هو الوفاء، فخيانة الصديق لصديقه بأي صورة من الصور تنتج جرحاً مؤلماً لا يزول.

أترانا نشهد الآن موت الصداقة؟ هل شروط الحياة المعقدة حملت الإنسان على العزلة عن الناس، وسلبت منه الثقة بالآخر؟ هل المصلحة وتحقيقها على حساب الصديق هي التي تقف وراء حرمان الإنسان من الثقة بالآخر؟ أم أننا كنا في وهم الصداقة الذي سرعان ما يتبدد وينكشف وهمنا؟

أسئلة كثيرة جداً يطرحها المرء على نفسه وهو يشهد موت الأصدقاء أحياء. إن كل هذه الأسباب مجتمعة وفرادى قد تكون وراء انفراط لحمة الصداقة، فما من أحد إلا وعاش تجربة موت الصديق حياً.

ومن أسوأ أسباب موت الصديق حياً، إلى جانب ما ذكرنا، عند بعض الناس، وعيهم الزائف بمفهوم الصديق، والوعي الزائف بمفهوم الصديق عدم احترام حرية الصديق انطلاقاً من نزعة ترى الآخر الصديق صورة مطابقة لي، وتحرمه من حق الاختلاف معه، وبخاصة في الأفكار والعلاقات مع الناس.

فمنطق أن يتخذ الصديق موقفاً مطابقاً لموقفي وإلا فإنه يخون الصداقة منطق أخرق. ولكن يحصل بأن صديقي قد تناقض مع نفسه وطعن قيمة سامية كنت أظنها فيه رغبة في رضا آخرين، فإنه هنا لم يختلف معي، بل تناقض مع عالم القيم التي هي معيار للشخصية الأخلاقية، عندها يموت الصديق.

أما اختلاف الأفكار والأذواق وما شابه ذلك فهذا حق من حقوق الفرد لا تلغيه الصداقة.

وبعد، فإن الصداقة رأس مال عاطفي، وتنتمي إلى الذكاء العاطفي، وتمنح الذات فرحاً بالآخر، ولهذا ففقدان صديق أمر مؤلم، لأنه خسارة لجزء من الرأسمال العاطفي، فموت الصديق حياً يولّد شعوراً بالعبث.