حينما كانت السعودية مملكة وليدة، وكانت الخدمات الصحية فيها متواضعة، بل معدومة في بعض مناطقها، لدرجة اضطرار المرضى للتداوي بالأعشاب والكي والوصفات الشعبية، أو ذهاب المقتدرين منهم إلى الدول الخليجية المجاورة، مثل البحرين، للعلاج في مستشفياتها، كان أحد أبنائها النابهين يجتهد في تحصيله العلمي، كي يتخصص في الطب، بهدف إنقاذ أهله وناسه من الأمراض والأوبئة المتفشية بطريقة علمية، آنذاك، وبالتالي، وضع حد للخزعبلات التي كان كثيرون يلجؤون إليها طلباً للشفاء، خصوصاً أنه عاصر وهو طفل محنة تفشي وباء الجدري في بلدته، الذي أودى بحياة الكثيرين من مواطنيه، ومنهم بعض أفراد أسرته.

ذلك هو الدكتور عبد الرحمن المشاري، ابن الأحساء، الذي قدر الله له أن يدخل تاريخ وطنه، كأول طبيب من ساحله الشرقي، ليكون صنواً للدكتور حيدر عثمان الحجار (أول طبيب سعودي من الحجاز، والذي تخرج في كلية الطب بالجامعة السورية سنة 1941)، والدكتور حمد العبد الله البسام (أول طبيب سعودي من نجد، والذي تخرج في كلية الملك إدوارد السابع ببومباي سنة 1943).

لقد حلم المشاري وهو في سن التاسعة بأن يصبح طبيباً، ووفقه الله، فلم يصبح في كبره طبيباً فحسب، وإنما صار أيضاً علماً من أعلام الطب، وأحد الذين سطروا أسماءهم بأحرف من ذهب في مجال تأسيس وتطوير الخدمات الطبية في وطنه. وفوق ذلك، نجح في البروز إقليمياً ودولياً، بدليل حصوله على العديد من الجوائز وشهادات التقدير العالمية، ناهيك عن تصنيفه من قبل مركز كامبردج الدولي في عام 1995، كأحد أبرز العاملين في المجال الطبي في القرن العشرين.

تقول سيرته المنشورة في العديد من المواقع الإلكترونية والمطبوعات الصحافية، ومنها ما كتبه الأستاذ عبد العزيز البدر في مجلة الاقتصاد (12/6/2016)، إن «عبد الرحمن بن مشاري بن إبراهيم بن مشاري الحسين»، المعروف بعبد الرحمن المشاري، ولد في عام 1935 بمدينة الهفوف/ قاعدة محافظة الأحساء، ابناً لعائلة أحسائية ميسورة الحال، وفيها تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي بمدرسة الهفوف الأولى (بنيت في عام 1937، وافتتحت رسمياً في عام 1941، تحت اسم «المدرسة الأميرية»)، التي كانت توصف آنذاك بـ «المدرسة الجامعة»، لقوة مناهجها، وعلو كعب معلميها، وشدة انضباط مخرجاتها، وتخرج العديد من أعلام المملكة منها، مثل الأمير خالد الفيصل، والدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي.

سمات ونجاح

تخرج المشاري في هذه المدرسة، ضمن الرعيل الأول من طلبة الأحساء. وأثناء سنوات دراسته فيها، عُرف بذكائه وانضباطه وشغفه بالتحصيل، وانكبابه على الدراسة، دون أن تشغله أمور اللهو والترفيه، ولهذا كان واحداً من الطلبة الذين يشار إليهم بالبنان طوال سنوات مرحلتيه الابتدائية والإعدادية، التي أعقبها سفره إلى مكة المكرمة، لمواصلة دراسته الثانوية هناك، بمدرسة العزيزية الثانوية. وفي هذه المدرسة كرر المشاري ما فعله في مدرسته بالهفوف، لجهة الاجتهاد والانكباب على التحصيل، فكان جزاؤه من جنس عمله. إذ تخرج بتفوق، وبالتالي، اختير ضمن عدد من الطلبة المتفوقين للابتعاث على نفقة الحكومة إلى مصر، لدراسة الطب بجامعة القاهرة، التي تخرج فيها عام 1966.

لم يكتفِ صاحبنا ببكالوريوس الطب والجراحة، الذي ناله من جامعة القاهرة، فقرر التخصص في مجال من مجالات العلوم الطبيبة العديدة. وهكذا تم ابتعاثه مجدداً إلى الخارج، لكن هذه المرة إلى إيرلندا، التي حصل فيها سنة 1968 على دبلوم التخصص في أمراض النساء والولادة من جامعة دبلن، ثم أمضى سنواته الأربع التالية في عدد من مستشفيات المملكة المتحدة، وجمهورية إيرلندا الشهيرة، مثل مستشفى روتندا بإيرلندا، ومستشفى جورج بولتون، ومستشفى برادفورد بإنجلترا، كطبيب متدرب في جراحة النساء والتوليد. وهناك ذاع صيته بين زملائه وأساتذته، فلقب بـ «ذو الأصابع الذهبية»، بسبب مهارته ودقته وكفاءته الجراحية.

في عام 1972 م، وبعد أن أنهى دراسته وجميع متطلبات التدريب الخاصة بحصوله على زمالة الكلية الملكية البريطانية لأمراض النساء والولادة، عاد إلى بلاده ليخدمها، فعمل في الفترة من عام 1972 إلى عام 1983، كأستاذ مساعد لأمراض النساء والولادة في كلية الطب التابعة لجامعة الملك سعود بالرياض، ومن موقعه هذا، ساهم في تخريج وتدريب دفعات من الأطباء المواطنين، ممن ساهموا بدورهم في تأسيس نظام صحي سعودي متقدم وواعد.

وأثناء هذه الفترة من حياته الوظيفية، وتحديداً في عام 1980، تولى وظيفة نائب مدير مستشفى الملك خالد الجامعي، إلى جانب توليه رئاسة قسم أمراض النساء والولادة في المستشفى، فقام بتقديم اقتراح إلى المسؤولين وولاة الأمر، حول ضرورة التوسع في مباني الجامعة، من أجل استيعاب وتخريج عدد أكبر من الأطباء السعوديين، ومواكبة التطورات العلمية العالمية. وقد تمت الاستجابة لمقترحه، بل وتم تكليفه شخصياً بإدارة مشروع طموح لتطوير وتوسعة كلية الطب، والمستشفى الجامعي بجامعة الملك خالد، حيث كرس الرجل كل وقته وجهده وعلمه، لإتمام المهمة التي أنيطت به على أكمل وجه.

ومن الوظائف الإدارية والأكاديمية الأخرى التي تولاها، والتي حرص من خلالها على الاستفادة القصوى من الطفرة الاقتصادية في وطنه، لتأسيس نظام طبي حديث، قادر على مواكبة تطورات العصر، تقلده منصب رئيس قسم النساء والولادة بمستشفى الملك عبد العزيز الجامعي بالرياض، ومنصب استشاري أمراض النساء والولادة في كل من مستشفى الرياض المركزي، التابع لوزارة الصحة السعودية، ومستشفى قوى الأمن بالرياض، التابع لوزارة الداخلية.

حلم وتحقق

لاحقاً، شعر الدكتور المشاري أنه قام بواجبه تجاه وطنه وشعبه والأجيال المقبلة، وأنه آن الأوان لتحقيق حلم كان يراوده، وهو بناء مستشفاه الخاص على أحدث ما توصل إليه العلم، ليضاهي به المستشفيات العالمية التي تدرب بها. وهكذا قدم استقالته من مناصبه، ليتفرغ للعمل الحر، وبالفعل، أفنى أربع سنوات من عمره وهو يشرف شخصياً على بناء وتأثيث أول مستشفى أهلي في الرياض، متخصص في أمراض النساء والولادة والأطفال، بعد أن حصل من الجهات الرسمية على التراخيص اللازمة، ليتحقق حلمه في عام 1987، بافتتاح المستشفى المذكور، الذي أخذ ينمو ويكبر، ويستقطب أمهر الأطباء المحليين والعرب في مختلف التخصصات الطبية على مدى العقود الماضية. ومما يُذكر، أنه في لفتة أبوية كريمة من خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، قام شخصياً ــ حينما كان أميراً للرياض ــ بافتتاح مستشفى الدكتور عبد الرحمن المشاري، في حفل بهيج، بحضور نائب أمير منطقة الرياض آنذاك، الأمير سطام بن عبد العزيز.

وفي 24 أكتوبر 2007، احتفل المستشفى بحصوله على شهادة الاعتماد الدولية لجودة الخدمات الصحية من المجلس الكندي للخدمات الصحية، وذلك في حفل حضره الدكتور المشاري، الذي ألقى كلمة بدأها بعبارة «لدي حلم»، ثم استطرد قائلاً: «بالتأكيد أن تلك العبارة قد مرت على آذانكم كثيراً، إنها من الخطبة الخاصة بمارتن لوثر كينغ - وأنا أيضاً لدي حلم، وبتوفيق من الله تعالى، ثم بمساندة من حكومتنا الرشيدة، فقد تحقق هذا الحلم. منذ عشرين عاماً، قمت بوضع أساسات هذا المستشفى، وعلى مر تلك السنوات، رأيته وهو ينمو ويتطور، ويمر بالعديد من التغييرات والتجديدات والتحسينات تقريباً في كل ركن من أركانه، وبجميع إداراته المختلفة، إلا أنه كان دائماً يوجد سؤال يتردد دائماً في بالي، ألا وهو «ماذا بعد؟». منذ عشرين عاماً، قمنا نحن المؤسسون ومعنا طاقم العاملين بوضع رؤية لمؤسستنا، ولم يكن في رؤيتنا إنشاء مؤسسة طبية فقط، بل كانت رؤيتنا تتعدى ذلك بكثير.. ربما كانوا يدعوننا من الحالمين، ولكن من نحن جميعاً بدون أحلام. لقد كانت رؤيتنا أن نصبح إحدى المؤسسات الطبية المعروفة والمعترف بها عالمياً، واليوم، ها أنذا أقف بينكم، يملأني شعور بالفخر والشكر والعرفان، حيث إنني، وأخيراً، قد اكتملت رؤيتي». ولم ينسَ المشاري في كلمته، أن يخص ابنه الدكتور محمد المشاري، وابنته الدكتورة هديل المشاري، بشكر خاص، لمثابرتهما في إدارة المستشفى بنجاح.

عائلة عريقة

بقي أن نذكر أن الدكتور عبد الرحمن المشاري، هو شقيق أصغر للشيخ حسن المشاري (ت: 2016)، الذي يعد أول وزير سعودي من شرقي السعودية، حيث تولى معاليه حقيبة الزراعة والمياه في الحكومة الأولى، التي شكلها الملك فيصل بن عبد العزيز، رحمه الله، بعد مبايعته ملكاً سنة 1964، علماً بأن عائلة الشقيقين المعروفة بـ «المشاري الحسين»، هي عائلة أحسائية عريقة، تعود جذورها إلى الدرعية، حيث اضطرت الأسرة للنزوح منها إلى الأحساء، مع غيرها من الأسر النجدية، بحثاً عن الرزق والأمان، على إثر اجتياح قوات إبراهيم باشا للدرعية، وهدمها عام 1233 للهجرة.

والجدير بالذكر، أن سيرة الشقيقين تتقاطع وتتشابه في الكثير من التفاصيل. فكلاهما ولد ونشأ وترعرع في الهفوف، وكلاهما تخرج في مدرسة الهفوف الأولى، وكانا من الطلبة المتفوقين، وكلاهما ذهب إلى مكة المكرمة لمواصلة تعليمه الثانوي، لكن في مدرستين مختلفتين، وزمنين متباعدين، بحكم فارق السن، وكلاهما ابتعث إلى مصر على نفقة الدولة، فدرس حسن في كلية التجارة بجامعة القاهرة، وتخرج متخصصاً في المحاسبة سنة 1953، بينما درس عبد الرحمن في كلية الطب بالجامعة نفسها، وتخرج سنة 1966، كما أسلفنا. إلى ذلك، واصل كل منهما دراسته العليا في بريطانيا، مع فارق أن حسن اضطر إلى قطع دراسته هناك لنيل الماجستير، بسبب نشوب حرب السويس سنة 1956، وقيام الرياض بقطع علاقاتها مع لندن، وتحويل طلبتها المبتعثين وغير المبتعثين إلى الولايات المتحدة، حيث التحق بجامعة جنوب كاليفورنيا، وحصل منها على درجة الماجستير في إدارة الأعمال الصناعية، عن أطروحة بعنوان «تحليل مفاوضات عقود النفط بين السعودية وشركات النفط الأجنبية».

قلنا آنفاً إن المشاري حصل في عام 1995 على تقدير تمثل باختياره من قبل مركز كامبردج الدولي لسير الأعلام، كواحد من أبرز العاملين في المجال الطبي في القرن العشرين، غير أن ذلك لم يكن التقدير الوحيد الذي حظي به، ففي 22 مارس 2010، تم منحه جائزة «عمر من الإنجازات»، من قبل المؤتمر الخليجي الخامس للإبداع العلمي في صحة المرأة، والذي انعقد بمدينة جدة، تحت رعاية كل من منظمة الصحة العالمية، والرابطة العربية لأمراض النساء والولادة، والكلية الملكية البريطانية لأمراض النساء والولادة، حيث تسلم جائزته من الأمير مشعل بن ماجد بن عبد العزيز محافظ جدة، بحضور لفيف من كبار أطباء العالم المتخصصين في صحة المرأة من الدول الخليجية والعربية والولايات المتحدة وكندا وأستراليا والهند ودول الاتحاد الأوروبي.

بعد رحلة طويلة من العمل الدؤوب في مكافحة الأمراض وخدمة المرضى، وتخريج الأطباء، والمساهمة في تشييد صروح الطب الوطنية، ترجل صاحب «الأصابع الذهبية»، الطبيب المتواضع الخلوق، إذ توقف قلبه الكبير عن النبض، وأغمض عينيه، ورحل إلى جوار ربه، في الثاني من أبريل سنة 2016، من بعد صراع طويل مع المرض، فتم دفنه بالرياض، من بعد الصلاة عليه بمسجد الملك خالد بن عبد العزيز بالرياض. وقد تسابق أصدقاؤه ومحبوه إلى رثائه والترحم عليه، وتعداد سجاياه ومآثره الكثيرة، رحمه الله.