لن أدخل في مشكلة الحقيقة بكل جوانبها الفلسفية، سأنطلق فقط من الحقيقة البسيطة التي تعني الاعتراف بالوقائع والتعبير عن هذا الاعتراف بالأحكام الدالة عليها، وهذا ما أشار إليه الفيلسوف العربي الأبرز ابن رشد بقوله: الحقيقة تطابق ما في الأذهان مع ما في الأعيان، فالأعيان الأشياء المتعينة واقعاً، فكلمة العربة تشير إلى العربة الواقعية، وهكذا.
إن البشر لا يختلفون في الحقائق الحسية وإلا لما كان في مقدورهم العيش معاً والتفاهم بالكلام الدال على الأشياء الحسية، والمختلفون بالمصالح لا يستطيعون الاختلاف في ما إذا كان هذا حجراً أو تراباً، ولو كانت علاقتنا بالحقيقة كلها بهذه البساطة لكانت الحياة هي الأخرى بسيطة من دون خلاف واختلافات، ولكن المشكلة تكمن في أن نكران المعقولية الواقعية والمنطقية يجرى على قدم وساق إذا كان لدى طرف من أطراف تتحاور في حقيقة ظاهرة ما أو حدوث واقعة ما مصلحة في هذا الإنكار.
ما معنى أن هناك جمهوراً ما يغتال الحقيقة؟
اغتيال الحقيقة موقف إرادة تعرف الحقيقة الواقعية وتقوم إما بإنكارها وإما تزيفها وإما تختلق حقيقة مناقضة لها ولا وجود لها أصلاً.
إذاً الشرط اللازم لاغتيال الحقيقة الاعتراف بها أولاً، ولكن ليس من مصلحة المعرف بها أن يتصرف وفقها، فينبري بما أوتي من أدوات إنكار أو تزييف على دحضها، أو إيجاد صور مختلفة تنطوي على عناصر واقعية للتصديق، فتوافر صيغة واقعية ما شرط لاغتيال الحقيقة وصوغ حقيقة مقنعة واغتيال الحقيقة هنا صورة من صور الكذب.
إن الحديث لا يتعلق بالأفراد، فاغتيال الفرد للحقيقة ذو آثار سلبية محدودة جداً متعلقه به وبمن تتعلق به الحقيقة المغتالة. والحق إن الحياة اليومية للناس مملوءة بصور اغتيال الحقيقة عن معرفة بالحقيقة، فحالات الغش والخداع جميعها حالات اغتيال للحقائق اليومية.
وتكمن خطورة اغتيال الحقيقة إذا قامت بهذا الاغتيال جماعة أو حزب أو دولة لغايات قد تصل إلى حد استخدام العنف بوصفه التبرير الأيديولوجي لهذا العنف، كالحرب مثلاً.
وتقف وراء كل اغتيال للحقيقة مصلحة ما، ويتم الاغتيال بجهد محدد لعدد من الفاعلين في الجماعة أو الدولة، فهذا العدد الخبير في اغتيال الحقيقة بعد أن يقوم باغتيالها يقوم في الوقت نفسه بتعميم البديل الزائف للحقيقة الواقعية، فيخلق لدى جمهورها تصديقاً بها، فالجمهور يصدق الحقيقة الزائفة ويتعامل معها أنها واقعية، وهذا المقصود باغتيال الحقيقة.
وهنا تبرز مشكلة مسألة «المعرفة» الجماعية بوصفها المعرفة التي تزود الجماعة الفرد بما تعرفه، فإذا كنا أمام جماعة تصدق حقيقة مختلقة فإنها ستورث المنتمي إليها هذا الاختلاق، وحينها تبرز صعوبة القطيعة المعرفية مع المعرفة الزائفة.
والحق إن التاريخ يعج بالحقائق المغتالة، بل هو الحقل الذي يتم به جز أعناق الحقيقة، وآية ذلك أن التاريخ مصدر مهم للانحياز، فالأقوام والطوائف والدول تختلف في سردياتها التاريخية، وكل جماعة تعتقد بحقيقة سرديتها التي تختلف عن السرديات الأخرى وهكذا.
وأكثر الحروب التي جرت والصراعات العنفية إنما استندت إلى صورة متعددة من الوقائع المختلقة وليست الواقعية، والحديث يطول في هذه القضية.
إذاً اغتيال الحقيقة ليس مرده إلى الجهل بالحقيقة، فالجهل بالحقيقة لا يسمح باغتيالها أصلاً، وإنما يصدر عن الجهل بالحقيقة مثلب من مثالب الوعي في التصديق من دون التحقق المنهجي أو المنطقي، وإنما يصدر عن الجهل بالحقيقة كثير من الخرافات والأساطير التي يعتقد بها كثير من الناس أنها حقائق، وليس مقصودهم اغتيال حقيقة يعترفون بواقعيتها.
بقي أن نقول إن اغتيال الحقيقة العلمية أمر صعب وشبه مستحيل، ولكن الجهل قد ينكرها انطلاقاً من الاعتقاد الذي أشرت إليه: الخرافات التي لا حصر لها.