كتب جدّنا الفيلسوف، يعقوب بن إسحاق الكندي (185 هـ/805 - 256 هـ/873) قبل ألف ومئة وإحدى وخمسين سنة، رسالة إلى المعتصم، جاء فيها: «إن أعلى الصناعات منزلة، وأشرفها مرتبة صناعة الفلسفة، التي حدها: علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان، لأن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق، وفي عمله العمل بالحق. وينبغي لنا أن لا نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق، وليس يبخس الحق، ولا يصغر بقائله، ولا بالآتي به، ولا أحد بخس الحق، بل كان يشرفه الحق». تنطوي الرسالة على فكرتين رئيسيتين: الفلسفة علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان، هذا أولاً، ثم ثانياً: اقتناء الحق من الأمم المباينة لأمتنا.
في تأويل هاتين الفكرتين نقول: «إن تعريف الفلسفة بوصفها علم الأشياء بحقيقتها،لا يعنى سوى أن الفلسفة هي علم الحقيقة، ولما كانت الحقيقة ليست معطاة لنا في الظاهر فإن الفلسفة تكشف عما وراء الظواهر، وما وراء الظواهر ليس سوى المعنى الكلي، والمعنى الكلي لا يكون إلا بكشف ماهية الأشياء، وماهية الأشياء هي الصفة الجوهرية، التي تجعل الشيء شيئاً».
أما معنى: «بقدر طاقة الإنسان فهو دلالة على قدرة العقل على كشف الحقيقة، فطاقة الإنسان العقلية وحدها القادرة على الوصول إلى حقائق الأشياء. إذاً الفلسفة هي العقل في رحلته المعرفية، وهذا العقل يتزود في رحلته بطاقات جديدة، فطاقة العقل تغتني، وتتجدد مع كل كشف عن حقائق الأشياء».
المسألة الأخرى ذات الأهمية هي الحق في اكتساب المعرفة من أي نبع كان، وهذا تفسير لأثر الفلسفة اليونانية، وشرعية استحسان الحق منها. إنها فكرة منهجية ما زال النقاش حولها حاضراً في حياتنا الثقافية بين من يسمون بأصحاب الأصالة، وأنصار المعاصرة، فكونية المعرفة بكل أنواعها هي التي تسمح بارتحالها، بسبب الحاجة إليها.
إن عودتنا للفيلسوف الأول في العربية لا تعني أبداً تناول المشكلات الميتافيزيقية، التي نظر فيها، بل من أجل تأكيد أهمية الفلسفة في وعينا الراهن لعالمنا ومشكلاتنا، من جهة، والدخول في العصر المعيش باكتساب آخر منجزات الحضارة العالمية، فما زال هناك نوع من الخطاب المعادي للفلسفة في عالمنا العربي، خطاب ينسى الإرث الفلسفي العربي المهم والثري، والذي صنعه الكندي والفارابي وابن سينا وابن باحة وابن طفيل وابن رشد وأبو العلاء المعري، وآخرون كثر.
وسائل يسأل: هل من الحكمة أن نقوم بترديد ما قالته العرب فلسفياً وما يقوله فلاسفة الغرب، بحيث يكون الفيلسوف العربي صورة إما شبيهة بماض وإما شبيهة للآخر؟
الجواب: لا بالإطلاق، فاكتساب المعرفة يعني تحولها في العقل الطليق إلى حوار نقدي مع الآخر، وإلى تجديد مناهج تفكيرنا في اجتراح الأجوبة الخاصة على أسئلتنا، فلنحدد أسئلتنا كي نحدد أجوبتنا، وعندها يمكن الحديث عن صور من الفلسفة العربية المعاصرة.
إن قول الكندي يعيدنا مرة أخرى إلى التفكير في تجربة التفلسف بوصفها تجربة فلسفة الواقع المعيش، فالتفلسف بوصفه الامتلاك النظري لحركة التاريخ والثقافة والمعرفة والقيم وللمجتمع بعامة، والكشف عما وراء هذه الحركة يحملنا على التفكير بواقع ينتج أسئلته، كما تقودنا هذه الأسئلة إلى أجوبة كلية قابلة بطبيعتها المجردة على الارتحال.
وهذا هو الذي يفسر ارتحال ابن رشد إلى أوروبا، ونشأة الرشدية اللاتينية، مع العلم بأن كتابه فصل المقال جواب كلي عن سؤال واقع عربي، فنحن نشهد اليوم عملية ترجمة واسعة لكتب أعلام الفلسفة الأوروبية والأمريكية المعاصرة، كما نشهد حركة كتابة فلسفية عربية، ونشهد حواراً واختلافاً ومؤتمرات وندوات، وكل ذلك يؤكد أهمية حضور الفلسفة في حياتنا الفكرية.