هناك ثمة اقتصادات في عالم اليوم، تعتمد في نموها على التصدير، وإذا كان الاقتصاد الصيني هو النموذج الأبرز، وبسببه تعاني الصين اليوم من عثرات خطيرة، على نحو ما فصلناه في مقال سابق، فإن إندونيسيا، عضو مجموعة العشرين الاقتصادية، وأكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا، يعاني هو الآخر، علماً بأن حجم اقتصادها قدر في عام 2019 بنحو 40 مليار دولار، مع توقعات بأن يتخطى حجمه حاجز الـ 130 مليار دولار بحلول عام 2030
والحقيقة أن الخبراء لطالما أشاروا على الحكومة الإندونيسية بضرورة تقليل الاعتماد على صادرات السلع الأساسية، مع تعزيز التنويع الاقتصادي، وبالفعل سعت الحكومة إلى ذلك، من خلال إنشاء مناطق اقتصادية خاصة، ومنح إعفاءات ضريبية لجذب المستثمرين الصناعيين، بل إنها تبنت في عام 2020، بسبب الركود الناجم عن جائحة «كورونا»، نهجاً أكثر صرامة لجهة تصدير بعض السلع، مثل خام النيكل، الذي تعتبر إندونيسيا أكبر منتج له، وذلك سعياً منها لزيادة القيمة المضافة.
ولأن النيكل مادة مهمة لإنتاج معظم البطاريات القابلة لإعادة الشحن (بطاريات السيارات الكهربائية تحديداً)، فقد زادت أهميته في سلسلة التوريدات العالمية بشكل كبير، خصوصاً في ظل الاهتمام العالمي بقضايا المناخ، ومحاربة الانبعاثات الكربونية، كما أن أسعاره شهدت ارتفاعات متتالية، بسبب حظر تصديره، وهو ما صب في صالح إندونيسيا، إلى جانب ما استفادته هذه البلاد من استثمارات بنحو 14 مليار دولار أمريكي، لبناء مصهرين للنيكل في مقاطعتي «ملوكو أوتارا» و«سولاويسي» المنتجتين للخام، وهي استثمارات حققت لإندونيسيا معدلات نمو مضاعفة في عام 2021. وبشرت بنجاحات إندونيسية في قطاع إنتاج البطاريات وتصنيع السيارات الكهربائية أيضاً.
صحيح أن حظر تصدير خام النيكل حقق نتائج مذهلة للبلاد، بدليل أنه أدى إلى زيادة قدرها نحو 30 ضعفاً في قيمة صادرات إندونيسيا ذات الصلة بالنيكل، لكن الصحيح أيضاً أن استخدام الحظر كأداة من أدوات السياسات الصناعية والاقتصادية، خلق تشوهات في السوقين المحلية والعالمية.
وفي هذا السياق، تخبرنا «كريستينا غوبتا»، الباحثة المشاركة في مركز دراسات السياسة الإندونيسية، أن احتساب القيمة المضافة المحلية أمر ليس بالسهل، وقد يكون مضللاً، إذا لم تحسب في المنتج النهائي للتصدير (البطاريات مثلاً)، تكلفة الطاقة اللازمة للإنتاج والمدخلات الأخرى، وتضيف الباحثة ما مفاده أن حمى توجيه النيكل بكثافة لصناعة البطاريات من أجل التصدير، سعياً وراء تنمية خزينة الدولة، سوف يحرم قطاعات صناعية إندونيسية أخرى من هذا الخام، لا سيما صناعة الفولاذ، خصوصاً أن النيكل الإندونيسي أكثر ملاءمة لإنتاج الفولاذ المقاوم للصدأ من البطاريات المتجددة.
من جانب آخر، يمكن القول إن لسياسات حظر تصدير بعض السلع الأساسية ذات الاستخدامات العالمية، كالنيكل، آثاراً جانبية سلبية، منها أن تلك السياسات قد تحفز بعض المصنعين الأجانب إلى إيجاد بدائل للنيكل، أو صناعة بطاريات لا يدخل فيها هذا المعدن أصلاً، وهو ما أقدمت عليه الصين فعلاً، ومنها أيضاً احتمال أن تخسر إندونيسيا، بسبب سياسات الحظر، مصداقيتها كدولة عضو في منظمة التجارة الحرة ومجموعة العشرين، إلى حد الدخول في دعاوي وقضايا مع شركائها التجاريين، علما بأن الاتحاد الأوروبي، مدعوماً من الولايات المتحدة، اشتكى إندونيسيا لدى منظمة التجارة العالمية، لفرضها ضوابط على وارداتها من النيكل. وهذا يجعل إندونيسيا غير قادرة على الشكوى والتذمر في حال عاملها الاتحاد الأوروبي بالمثل، إذا ما أرادت تسويق بطارياتها أو مركباتها الكهربائية في أوروبا.
ومن المآخذ على راسمي السياسات الاقتصادية في جاكرتا، أنهم يدفعون البلاد نحو استثمارات هائلة في صناعة السيارات الكهربائية، بحجة تلبية متطلبات المناخ النظيف من جهة، ومن جهة أخرى، بدعوى وجود ميزة تفضيلية لإندونيسيا في هذه الصناعة، متمثلة في إنتاج بطارياتها المعتمدة على النيكل المحلي، وذلك مقارنة بدول الغرب، التي لا يزال فيها تصنيع السيارات الكهربائية ومكوناتها أكثر تكلفة من السيارات التقليدية.
وأحد المآخذ، هو أن السوق المحلية محدودة وغير قادرة على تصريف المنتج من هذه السيارات، وأن التصدير إلى الأسواق الأوروبية ليس بالأمر السهل، وتقف دونه عقبات كثيرة. ومن هنا، اقترح بعض الخبراء على حكومة جاكرتا، أن تركز في الوقت الحالي على صناعة الدراجات الكهربائية، على اعتبار أن تصنيعها أسهل، وأسعار بيعها أقل، ناهيك عن سهولة تصريفها في السوق محلي.