كثرة الأحداث والتفاعلات الدولية وما يقابلها من العدد الهائل لوسائل الإعلام المهتمة بمتابعة ورصد ونقل كافة الأحداث ومن مختلف مناطق العالم، وبالإضافة إلى الثورة التكنولوجية والمعلوماتية وما وفرته من سرعة انتقال المعلومات والأخبار وما توفر من وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت في متناول الجميع وفي كل مكان، كل ذلك تسبب في وجود شغف لدى الأفراد بمتابعة ومعرفة ما يحدث حولهم وما يحدث في العالم، بل تطور الأمر حتى وصل إلى محاولتهم فهم ومعرفة ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟ وماذا سيحدث لاحقاً؟.
وفي ظل التنافس الإعلامي لكسب أكبر عدد من المشاهدات للقناة، هذا أدى إلى وجود عدد كبير من البرامج الحوارية التلفزيونية التي تناقش القضايا السياسية الدولية أو القضايا السياسية الداخلية لدولة ما (من باب متابعة الحدث وتحليله)، وبالتالي قامت بعض القنوات باستضافة وأحياناً التعمد بإبراز أسماء معينة يطلقون على أنفسهم «محلل سياسي» أو «المختص في الشأن الفلاني» للحديث عن موضوع معين في قضية معينة، من حيث المبدأ أنا مؤيد لوجود برامج حوارية تطرح قضايا مختلفة وفي كافة المجالات وتستضيف المحللين والمتخصصين في المجال محل النقاش.
لكن تكمن ملاحظاتي في نقطتين في ما يخص الضيوف المحللين، الأولى يجب على القنوات التلفزيونية أن تكون حريصة على استضافة المتخصصين في الشأن والمشهود لهم بالمعرفة والمصداقية، النقطة الثانية يجب على الجمهور معرفة المتحدث ليس معرفة اسمه وشهاداته الأكاديمية بل معرفة توجهات ومعتقدات وأفكار المتحدث، حيث إن المحلل أو المتخصص غالباً ما ينقل أفكاره ووجهات نظره بناء على معتقداته والأيديولوجية التي يتبناها، وللأسف يوجد نوع آخر من المحليين سواء على الشاشات التلفزيونية أو عبر المقالات ينشرون حسب «ما يطلبه الجمهور» لزيادة شعبيته أو زيادة المتابعين مبتعداً عن الصدق والأمانة في الطرح.
وأقرب مثال على ذلك «أحداث غزة» هناك من يرى أن ما قامت به «حماس» مغامرة فاشلة غير محسوبة النتائج والكوارث، ويؤكد على ذلك عدد القتلى والجرحى الذي تجاوز 40 ألف قتيل ومصاب، وتهديم آلاف المنازل والبنى التحتية والمستشفيات، وتحول الشعار من تحرير الأقصى إلى طلب وقف إطلاق النار، بل هناك من يرى أن حماس ستخرج من المعادلة الفلسطينية وستستبعد من إدارة قطاع غزة أي أنها خسرت، في المقابل هناك من يرى أنه رغم كل ما ذكر من خسائر وكوارث أن «حماس» منتصرة وحققت أهدافها.
قراءة الأحداث وتحليلها واستشراف مستقبلها وسيناريوهاتها لا تتم عبر أمنيات وأحلام أو عواطف ورغبات أو حتى ما يحبه المتابعون، قراءة الأحداث تتم من خلال استخدام نظريات ومناهج علمية بالإضافة إلى تحلي الكاتب أو المحلل والباحث بالأمانة والمصداقية، فالتحليل السياسي علم مهم يحكمه أسس ومفاهيم ونظريات ومدارس وقواعد علمية، بعيداً عن رغبات النفس والأهواء وقراءة الطالع وحساب تحركات النجوم.
فهم السياسة والعلاقات الدولية وما يتعلق بها ليس بالأمر الهين أو البسيط، فقراءة وتحليل الأحداث السياسية والعلاقات الدولية عملية معقدة جداً ومتشابكة ولها أبعاد مختلفة الجذور ومتعددة الجوانب، لذا يحتاج الباحث السياسي أو المحلل السياسي إلى استخدام منهجيات وأدوات علمية ومعلومات وأرقام وإحصائيات دقيقة وتواريخ مرتبطة بالقضية أو الظاهرة محل الدراسة حتى يستطيع وصف وتفسير قضية أو ظاهرة سياسية معينة ومن ثم يتمكن من نقدها وتحليلها وتوقع سيناريوهاتها.
محاولة فهم السياسة وسلوك الدول والتفاعلات الدولية من قبل الأفراد يأتي لعدة أسباب نذكر منها: بعضهم يريد أن يرضي فضوله فقط، ومنهم من يريد أن يشعر أنه واع ومدرك لما يحدث من حوله وما يحدث في العالم، إلا أن المشكلة تكمن في نوعين نذكرهما هنا: الأول من يحاول تحليل حدث أو قضية ما مع عدم فهمه وعلمه بأصول وأساسيات ومنهجيات ونظريات العلوم السياسية والعلاقات الدولية ولا يملك الخبرة والوعي الكافيين، فيرى الأمور والأحداث ببساطة وسطحية مما يجعل الصورة لديه غير واضحة وغير دقيقة، بالتالي تكون نظرته غير صحيحة ووجهة نظره غير صائبة، أما النوع الثاني من يبحث عن ما يتوافق تحليله مع رغباته وأمنياته وما يتوافق مع أفكاره ومعتقداته عاطفياً.