المعروف أن رحالة أوروبيين كثراً حلّوا في الخليج والجزيرة العربية منذ القرن 16 في رحلات متتابعة. هؤلاء تنوعت جنسياتهم، وأهدافهم المعلنة ما بين الكشف الجغرافي والتدوين التاريخي والسبق الصحافي والاستطلاع الثقافي/الاجتماعي. وبغض النظر عن دوافعهم الحقيقية ورأينا في بلدانهم وما طالهم من اتهامات، فإنهم أسدوا خدمة لا تقدر بثمن للباحثين والمؤرخين والدارسين من خلال ما تركوه لنا من كتب ودراسات ومدونات حول المكان والزمان والبشر والحجر والمجتمعات والعادات، تباينت هي الأخرى من حيث الحجم والتفاصيل والأسلوب والمضمون.
من بين هؤلاء، رحالة يهودي ألماني تميز عن غيره بتوثيق ما شاهده من خلال الصورة الفوتوغرافية التي عادة ما تغني عن ألف مقال، ولا تترك مجالاً للشك أو التكذيب. صحيح أن رحالة آخرين التقطوا الكثير من الصور النادرة التي توثق أسفارهم وتنقلاتهم ومشاهداتهم، إلا أن الألماني «هيرمان بورخارت Hermann Burchardt»، الذي سيكون موضوع هذه المادة، تميز عن زملائه بالتركيز على الصورة أكثر من الوصف الإنشائي، ربما لأنه كان في الأساس مصوراً معروفاً. ولعل ما يميزه أيضاً أنه قام برحلات استمرت 16 عاماً دون أن تكون له أغراض سوى التصوير.
ولد بورخارت في برلين في 18 نوفمبر 1857 ابناً لتاجر يهودي ثري، ودرس إدارة الأعمال في برلين قبل أن يلتحق بعمل والده التجاري. وحينما توفي والده، قرر أن يهجر العمل التجاري وينفق ما ورثه من أموال على تعلم فنون التصوير الفوتوغرافي، التي كان شغوفاً بها منذ صباه. وما إن أتقنها حتى انصرف إلى الالتحاق بقسم اللغات الشرقية في جامعة برلين، حيث درس في الفترة ما بين عامي 1890 و1892 اللغات العربية والتركية ومبادئ اللغتين السواحلية والفارسية. ويبدو أن كل هذا كان استعداداً لقرار اتخذه بالتحول من تاجر إلى رحالة يجوب العالم من أجل المتعة والاكتشاف.
بدأ رحلاته، في سن السادسة والثلاثين، بالسفر على نفقته الخاصة إلى واحة سيوه بمصر سنة 1893، ومنها واصل طريقه إلى مدينة طنجة المغربية، ثم جاب مناطق عدة في أفريقيا. لاحقاً قرر أن يتخذ من دمشق قاعدة للانطلاق إلى مناطق أخرى في العالمين العربي والإسلامي. وهكذا وصل إلى دمشق سنة 1901 محملاً بأحدث معدات التصوير وكل الأدوات اللازمة للتحميض والطبع، واستأجر فيها شقة لإقامته، واشترى خدمات شخص سوري يدعى «أبو إبراهيم» كي يكون دليله ومرافقه. وبعد أن أمضى في سوريا أشهراً طويلة متفحصاً ومصوراً معالمها وحياة أهلها، قرر أن يبدأ مغامرة جديدة قادته في ديسمبر من العام نفسه (1901) إلى بلاد اليمن أولاً، علماً بأنه أولى اليمن أهمية خاصة، بدليل الصور الكثيرة التي التقطها هناك لمعالمها وناسها، ثم بدليل تكرار زيارته لها مرتين أخريين (في عامي 1907 و1909) بعد زيارته الأولى التي استغرقت نحو عام كامل، واعتمد في ذلك على خدمات سكرتيره ومرشده اليمني «أحمد محمد الجرادي». ويعزو البعض سبب تردده على اليمن إلى كونه تفاجأ بوجود أعداد كبيرة من اليمنيين يدينون بنفس ديانته اليهودية، فأراد دراسة أوضاعهم وتاريخهم بطريقة متعمقة.
علاوة على اليمن، التي زارها بعد أن حصل على تصريح من إمامها «يحيى حميد الدين» بعدم التعرض له وتركه يتجول بحرية، زار البصرة ومنطقة الخليج العربي وشرق السعودية وعُمان وبلاد فارس، لكن ما يعنينا هنا هو جولاته في سواحل الخليج العربي وما كتبه عنها وما التقطته عدسته من صور لمعالمها ورجالاتها في مطلع القرن العشرين.
في 6 ديسمبر 1903 غادر بورخارت البصرة بحراً متجهاً إلى الكويت مروراً بالمحمرة. في الكويت زار حاكمها حينذاك الشيخ مبارك الصباح وقدم له رسالة تعريف من الحاكم العثماني للبصرة، فاستضافه في غرفة داخل قصره، ثم بدأ جولته في الكويت، فصور الميناء والمراكب الشراعية المنطلقة نحو الهند وسوق الفحم، حيث كان يباع الفحم والماء والتمر الوارد على ظهور الجمال والحمير. وقبل أن يغادرها زار الحاكم مرة أخرى والتقط صورة شخصية له. ومن الكويت انتقل إلى أرخبيل البحرين فوصلها بعد أسبوع من الإبحار البطيء، حيث أقام لمدة أسبوع بمنزل الوكيل السياسي البريطاني، واستقبله أيضاً في تلك الفترة الشيخ عيسى بن علي آل خليفة في قصره، وقام بالتقاط صورة لشيوخ البحرين يتوسطهم الشيخ عيسى، وأخرى لولي العهد الشيخ حمد، وثالثة لقصر الحاكم، ورابعة لمسجد الخميس ذي المنارتين، ورابعة لأحد شوارع المنامة، وخامسة لأطلال قلعة برتغالية.
من البحرين سافر إلى ميناء العقير (جمرك إقليم الأحساء)، فالتقط صوراً للحصون والميناء والجمرك وقوافل الجمال القادمة من الهفوف والجنود الأتراك، كما جال في الهفوف وصور سورها وأسواقها ونخيلها وقصر حاكمها العثماني والفرقة الموسيقية للحامية التركية، إضافة إلى لقطات غير مسبوقة لمعالم الأحساء. وقد أفاض في الحديث عن الهفوف خلال محاضرته في الجمعية الجغرافية ببرلين سنة 1906 فقال إن سكانها لا يزيدون على 30 ألف نسمة، يزاولون أعمالاً مختلفة من بيوتهم، فتحولت مدينتهم إلى ورشة كبيرة...». ومن الهفوف انطلق براً إلى قطر، فوصلها بعد 9 أيام عبر منطقة حصوية ورملية، وذهب رأساً لتقديم نفسه إلى قائد الحامية التركية بالدوحة الذي استقبله بحفاوة، وقد مكث في قطر لمدة 6 أيام.
وصل إلى إمارة أبوظبي في فبراير 1904 عن طريق البحر قادماً من قطر. وقد أتى على ذكر ذلك في مذكراته فكتب ما مفاده أنه بمجرد وصوله إلى أبوظبي ذهب مباشرة لرؤية الحاكم حينذاك الشيخ زايد بن خليفة، فلما وصل قصر الحصن، جلس ينتظر إلى أن ظهر الشيخ زايد بن خليفة متوجهاً إلى مجلسه خارج الحصن، فوصفه بقوله: «تبدو على الرجل هيبة الحكم وسيماء العظمة والوقار».
وإذا كانت صوره اليمنية هي الأولى من نوعها لهذا الجزء من العالم، فإن الصور التي التقطها في أبوظبي لا تقل أهمية، كونها اشتملت على لقطات نادرة جداً وغير مسبوقة، فعلى سبيل المثال التقطت عدسته صوراً لقصر الحصن التاريخي، الذي ظل مقراً للحكم حتى عام 1971، وصوراً لبيوت السكان المبنية من سعف النخيل وجريده، ومراكب صيدهم التقليدية، علاوة على أول صورة فوتوغرافية للحاكم السابع لإمارة أبوظبي الشيخ زايد بن خليفة بن شخبوط آل نهيان، المعروف بـ«زايد الأول»، و«زايد الكبير» (حكم من عام 1855 وحتى تاريخ وفاته سنة 1909)، وهو في مجلسه مع أبنائه ومرافقيه، وصورة أخرى له وهو جالس يسند ظهره إلى جدار الحصن وبيده عصاته ويرتدي عباءة سميكة، وصورة ثالثة لخيل من خيوله، قيل إنها جاءته هدية من شريف مكة.
بعد أبوظبي سافر إلى دبي ثم جال في كل المنطقة، ومنها انتقل إلى عُمان، حيث زار «صحار ومسقط ومطرح» وغيرها، ووثق معالمها فوتوغرافياً.
ويمكن القول إن بورخارت وجد في أبوظبي مكاناً مثالياً لممارسة عشقه في تصوير كل ما هو فريد ومتمايز بالنسبة لشخص مثله جاء من حضارة أوروبا وصقيعها، ولعل ما يؤكد ذلك أنه عاد إليها مرة أخرى بعد 4 سنوات وهو في طريقه للمرة الثالثة إلى اليمن التي وصلها عام 1909 للالتقاء بصديق له كان يشغل وقتها منصب القنصل الإيطالي في ميناء المخا على ساحل البحر الأحمر، هو الماركيز بينزوني، حيث كان هناك ترتيب مسبق حول انضمامه إلى صديقه في رحلة من المخا إلى صنعاء عبر مدينتي تعز وإبْ. وقتها، أرسل صاحبنا إلى أحد أصدقائه في برلين رسالة على ظهر بطاقة بريدية كان يحتفظ بها، وهو لا يدري أنها ستكون رسالته الأخيرة.
الرسالة مؤرخة في 8 ديسمبر 1909، ومن ما جاء فيها: «ستصلك هذه البطاقة من مخا، أحد أكثر الأماكن الصغيرة ضياعاً في آسيا. لقد فاقت كل توقعاتي فيما يتعلق بحالها...».
ما حدث بعد ذلك كان مأساوياً، فبينما كانت القافلة الصغيرة على بعد 3 - 4 أيام من صنعاء سيراً على الأقدام تعرضت لكمين مسلح في منطقة «العدين» إلى الغرب من إبْ، حيث تم القضاء على بورخارت والقنصل. وصف البعض الحدث بأنه خطأ في تحديد الهوية، ووصفه البعض الآخر بدافع السرقة، وقال البعض الثالث إن الحادث كان مدبراً للانتقام من بورخارت تحديداً بسبب تواصله مع يهود اليمن.
وبغض النظر عن هوية الجناة ودوافعهم، فإن خبر مقتله قبل وقت قصير من احتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية انتشر في العالم بشكل سريع، بل وصلت أصداؤه إلى أماكن بعيدة مثل أستراليا التي خرجت صحيفتها الأولى «سيدني مورنينغ هيرالد» وهي تحمل «مانشيتاً» يقول: «مقتل رحالة في مخا».
بعد مقتله لم يستدل على الجناة لمعاقبتهم، فسجلت الجريمة ضد مجهول وأغلق ملفها. وكل ما حدث هو أن أعلن الحداد في أوساط أفراد الجاليات الأوروبية القليلة في صنعاء والحديدة، ونكست الأعلام المرفوعة على القنصليات الأجنبية المعدودة، وألغيت احتفالات أعياد الميلاد.
وهكذا، طويت صفحة بورخارت، وقام «ماكس غينسبيرغ» (ابن أخته) في عام 1911 بإهداء مجموعة خاله القيمة من الصور واللوحات المكونة من ألفي لقطة نادرة إلى متحف الأنثولوجيا في برلين. ولحسن الحظ أنها بقيت منسية في صناديقها داخل قبو المتحف لسنوات، وهو ما أنقذها من الدمار والضياع خلال الحرب العالمية الثانية، لتظهر للملأ عام 2000.. الأمر الذي ساعد المؤرخين والمهتمين على أرشفة نحو 90% من الصور مع كتابة بياناتها باللغتين الألمانية والإنجليزية قبل عرضها.
أما في الخليج، فقد صدر في العام 2009 عن «هيئة أبوظبي للثقافة والتراث» الطبعة الأولى من كتاب «رحلة عبر الخليج العربي، من البصرة إلى مسقط» من تأليف «آنفريريت نيبا» و«بيتر هربسترويت»، وترجمة الدكتور أحمد إيبش، وهو كتاب يغطي تفاصيل رحلة بورخارت الفريدة في الفترة من ديسمبر 1903 إلى أبريل 1904 في منطقة الخليج العربي.