لقد كتبت عن الرومانسية الأيديولوجية، ورومانسية الجماعات، وعن الرومانسية بوصفها مفهوماً، لكنني لم أنتبه إلى رومانسية الذات الفردية وتحولاتها وصورها، فمن النادر أن نجد إنساناً لم يمر بحالة عاطفية في نظرته إلى الحياة، وتصوّر عالم جميل يسعى إليه ويعيشه، رافضاً واقعه، آملاً واقعاً يرتاح إليه.
وإذا كان كثير من أهل الكتابة يربطون بين الرومانسية والحب بين المرأة والرجل، فإن الرومانسية - موقفاً من العالم - ليست مرتبطة بهذا فقط، فالعقل الرومانسي متأفف، عقل قد يتخيل عالماً من الصفاء الروحي والتحرر من العبودية لما هو مادي، وعقل يحب الحياة في صورتها الأخلاقية، وعقل يرى في وجوده عبثاً لا يستحق الانشغال بهذا الوجود، وعقل يميل إلى المجون بوصفه سلوك القَلِق الذي يعيش العدم قبل تحققه، فالرومانسية الفردية، بهذا المعنى، موقف من الذات تجاه الوجود، موقف يتخذ صوراً كثيرة، من الرغبة في عالم متخيل أفضل من هذا العالم إلى الانغماس في المجون رفضاً لهذا العالم، فالرومانسية أولى علائم المراهق، فالحب عند المراهق غالباً ما يكون منفصلاً عن الغريزة، ويروح من لديه حس شعري بكتابة قصائد وخواطر تفوح منها عاطفة حب الحبيب المنزه، عاطفة مملوءة بالشوق والألم، وهكذا، وبعض الشعراء يظلون على هذه الصورة حتى في شيخوختهم، كإبراهيم ناجي، وأحمد رامي، وغيرهما.
وتظهر رومانسية بعض الأفراد بالتأفف من الحياة في المدينة، ويميلون إلى العيش البسيط في قرية وادعة بين أحضان الطبيعة، والحق أن أغنية الموسيقار محمد عبدالوهاب «محلاها عيشة الفلاح»، التي كتب كلماتها الشاعر بيرم التونسي، تلخص هذا النمط من الرومانسية.
ومن أطرف أنواع الرومانسية الفردية، رومانسية الكهول الأغنياء المتأخرة، فبعدما خبروا حياة المتعة والرفاه وتحقيق كل الحاجات التي تخطر على بالهم، بمعزل عن ضرورتها أو عدم ضرورتها، فإنهم يميلون إلى تمنّي حياة هادئة وادعة من جهة، وتبرز لديهم فكرة الزهد بالمتع.
والحق أن الزاهد بالمتعة بعدما شبع منها ليست سوى ثمرة من ثمرات شيخوخة الجسد، الذي لم يعد قادراً على الاستمتاع، فيحولون عجزهم عن الاستمتاع إلى فلسفة في الزهد، ولا شك في أن كل فلسفة في الزهد ليست ناتجة عن العجز عن المتعة، بل قد تكون ذات وعي بالحياة والوجود الإنساني، فرومانسية أبي العلاء المعري الزاهدة ناتجة عن فلسفة في الحياة والموت والعيش، وهو زهد ليس مرتبطاً بالزهد الديني، والأمر مختلف عن زهد أبي العتاهية، الذي زهد بعد غرقه في المتعة، وقس على ذلك زهد أبي نواس المتأخر، فأبو نواس القائل:
دع عنك لومي فإن اللوم إغـراء وداوني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسها حجـر مسـته سرّاء
هو نفسه الذي كتب يقول:
أرى كل حي هالكاً وابن هالك وذا حسب في الهالكين عريق
فقل لقريب الدار إنك ظاعن إلى منزل نائي المحل سـحيق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عـدوٍّ في ثياب صديق
لكن الرومانسية ليست مرتبطة بالزهد عند الكل، بل إن رومانسية عمر الخيام مرتبطة بالحصول على المتعة، لأن الحياة فانية، «فاغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الأمان»!.
والحق أن رومانسية العبث لدى الفيلسوف أو الشاعر شكل من أشكال العدمية، فالموقف العدمي من الحياة ناتج عن واقعة الموت، الذي هو العدم عندهم، ثم غالباً ما ترتبط رومانسيتهم بالقلق الوجودي.
لا شك في أن الرومانسية في أحد أشكالها لدى الفرد نمط من الاحتجاج على ما لا يرضيه في هذه الحياة، كما أسلفنا، لكنها في النهاية ذات روح طوباوية، فمهما كان الفرد رومانسياً، فإنه ليس باستطاعته أن يغيّر ما هو كائن، وما يمكن أن يكون.