تعرف العربية الاختلاف في أحد وجوهه بعدم الاتفاق في الرأي.
والاختلاف في الرأي لا يكون إلا في النظر من قبل اثنين أو أكثر إلى موضوع واحد من زوايا فهم متعدد غير متفق عليه. وهذا حق، فالاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية كما قالت العرب.
وشتان ما بين الاختلاف الحقيقي والاختلاف الزائف. فالاختلاف الحقيقي هو المستند إلى حجة وبرهان من قبل المختلفين على فهم وتفسير قضية حقيقية واقعية.
وكل اختلاف حول الأوهام هو اختلاف زائف لا قيمة له، لأن الأوهام تخيل ذهني لا علاقة له بالواقع.
الاختلاف الحقيقي اختلاف أجوبة عن سؤال حقيقي، وهذا الاختلاف هو الذي يولد المشكلة المعرفية. والاختلاف الزائف اختلاف أجوبة عن سؤال زائف، وهذا لا يولد مشكلة معرفية.
وإذا خطونا خطوة أخرى لتحديد أكثر قلنا: يولد الاختلاف الحقيقي مشكلة حقيقية، كما يولد الاختلاف الزائف مشكلة زائفة.
فالعلوم الإنسانية هي علوم المشكلات الحقيقية، لأن كل ظاهرة اجتماعية تخضع لجملة تفسيرات وتأويلات وأشكال من الفهم متنوعة ومختلفة. فلو سألنا مثلاً ما التاريخ؟ فقد يجيب أحدهم هو سيرورة حتمية، ويجيب آخر هو جملة مصادفات غير قانونية، ويجيب ثالث هو ثمرة إرادات البشر، ويجيب رابع التاريخ تاريخ الصراعات والتناقضات الاجتماعية.
ها نحن أمام سؤال حقيقي هو ما التاريخ؟ فإذا نحن أمام عدة أجوبة عن هذا السؤال قادتنا إلى مشكلة التاريخ.
لكن لو سأل سائل: أين تسكن الأشباح ومتى تظهر؟ فهذا سؤال زائف، وكل الأجوبة عنه زائفة، والاختلاف زائف، والمشكلة الناتجة عن الأجوبة زائفة.
ولكن لو سألنا: ما تفسير اعتقاد بعض الأفراد بوجود الأشباح؟ فهو سؤال حقيقي لأن بعض الأفراد يعتقدون بوجودها ويتحدثون عنها، والأجوبة عن هذا السؤال مرتبطة بعلم النفس المرضي الذي يفسر هذه الظاهرة بوصفها ظاهرة مرضية، أو يفسرها علم التحليل النفسي ويردها إلى نوع من الأحلام.. إلخ. وقس على ذلك.
وتواجهنا مشكلة من أعقد المشاكل وأخطرها ألا وهي الاختلاف الأيديولوجي الزائف المرتبط بالتعصب الذي يفسد الرأي العقلي.
فنحن نشهد مثلاً اختلافاً حول تقويم شخصية تاريخية قامت بدور مهم في التاريخ بين رأي إيجابي، وآخر سلبي، انطلاقاً من انتماءات تعصبية طائفية، وليس اختلافاً يستند إلى مناهج علم التاريخ. فكل اختلاف مرده إلى تعصب أيديولوجي هو اختلاف زائف.
والأخطر من ذلك حين يصبح هذا الاختلاف الأيديولوجي أساساً لصراع مسلح، وحجة للدفاع كل عن سرديته الماضية التي لن تعود أبداً.
وهذا يعني بأن الاختلاف الزائف يقود إلى صراعات زائفة، والصراعات الزائفة هي التي لا تنتج إلا واقعاً زائفاً، وهنا يكمن وجه الخطورة في المجتمعات التي ما زالت تختلف أيديولوجياً حول الماضي وأحواله وشخوصه وصراعاته.
نخلص إلى سؤال مهم الآن: هل الاختلاف حالة مذمومة أم ممدوحة؟ الاختلاف حالة موضوعية لا يمكن لأحد نكرانها.
لكن وبناءً على ما سبق فإن الاختلاف الزائف هو الاختلاف المذموم؛ لأنه يفسد العقل والحياة ونتائجه كارثية، فيما الاختلاف الحقيقي هو الذي ينتج الجديد في العلم والمعرفة والمجتمع ؛ لأن الاختلاف الحقيقي يقود في كثير من الأحيان إلى استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار كل جوانب الموضوع أو المشكلة.
وإذا كان الاختلاف في العلوم الطبيعية والرياضية محدوداً جداً، لأنه مبرأ من المصلحة، فإن الاختلاف في كثير من قضايا المجتمع الاقتصادية والثقافية والقيمية ذو علاقة بالمصلحة، وعالم المصالح هو عالم اختلاف، ولهذا فإن المؤسسة هي المكان الذي يتحول فيها اختلاف المصالح إلى البحث عن وحدة المصالح الكلية، وهذا أيضاً هدف القوانين الناظمة لحياة الناس.
ولهذا قال فلاسفة السياسة قديماً وحديثاً، بأنه حين وصلت اختلافات وتناقضات المجتمع حداً ينذر بصراعات قاتلة نشأت الدولة، وهكذا.