يكثر الحديث، هذه الأيام، من بعض العرب الذين يظنون أنهم منتمون إلى الأقوام البائدة، عن الأصول العرقية والثقافية واللغوية لهم. ومن الطريف في الأمر، أنهم يتحدثون عن هذا كله باللغة العربية الفصيحة، أو اللهجة العربية المحكية.
وتاريخ تمازج الأقوام والقبائل في المنطقة العربية قديم، والعربية صارت لغة جميع الأقطار العربية.
وجميع الأعراق التي دخلت في الدين الإسلامي من غير العرب، احتفظت بلغاتها الأصلية، كالفرس والترك، ومن ينتمون إليهم من أقوام بأسماء مختلفة، كالأوزبيك والآذريين والكرد والطاجيك... إلخ.
أن تنتظم اللغة العربية جميع البلدان العربية الناطقة بها الآن، فهذا يعود إلى مشترك اثني لغوي ثقافي تاريخي مشترك بالضرورة.
بالأمس، استمعت على اليوتوب بالمصادفة إلى سيدة لبنانية تتحدث عن اللغة اللبنانية، وتتحدث بأمثلة عن كلمات لبنانية، تشير إلى أعضاء الجسد مختلفة عن الكلمات العربية. فتقول بكل عبقرية، إننا في اللغة اللبنانية نقول إيد وليست يداً، ونقول منخاراً وليس أنفاً. وهذا يعني أن العرب من المحيط إلى الخليج لغتهم هي اللغة اللبنانية، لغة لبنانية وليست عربية، لأنهم يستخدمون كل هذه الألفاظ في لهجاتهم المحكية.
وهناك من يأخذ على لغتنا الفصيحة بأنها لا علاقة لها بحياتنا، وهذا قول فيه من عدم المعرفة بوظيفة الفصيحة الشيء الكثير.
فكل الكتب المنشورة منشورة باللغة العربية الفصيحة، وقس على ذلك المجلات بكل أنواعها، والجرائد العربية جميعها بالفصيحة، جميع نشرات الأخبار في الراديو والتلفاز العربيين تُلقى بالفصيحة، كل اجتماعات وحوارات ونقاشات المؤتمرات العربية تجري باللغة الفصيحة، جميع المعاملات الرسمية في مؤسسات الدولة تُكتب بالفصيحة، جميع رسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعات العربية تُكتب بالفصيحة. جميع الروايات العربية مكتوبة بالفصيحة، الشعر العربي قديمه وحديثه مكتوب بالفصيحة، باستثناء شعراء العامية هنا وهناك. إنها لغة من لغات الأمم المتحدة الرسمية الست. واللغة المحكية هي الفصيحة بلسان يسهل لفظها. فجملة (إجا شخصين) بالمحكية، هي بالفصيحة (جاء شخصان). «رايح أشوف صاحبي»، جملة بالأصل من ثلاث كلمات فصيحة. راح، شاف، صاحب.
لماذا لم تستطع اللهجات المحكية أن تصبح لغات في هذا البلد أو ذاك من بلاد العرب؟
الجواب بسيط، إذ إن هذا الاختلاف بين العربية المحكية والعربية الفصيحة، يعود إلى تاريخ قديم جداً، تاريخ لغة الشعر والأدب عموماً، والخطابة والكهان والحكماء. إنها لغة الكتابة، وظلت العربية الفصيحة، بما تنطوي عليه من مفاهيم ومفردات واشتقاقات ونحو وصرف، هي عربية المعرفة، ولغة التعبير والتفاهم بين جميع العرب، في حقول المعرفة والأدب من كل الأنواع.
فكل تراثنا العلمي والأدبي والفكري والفلسفي، مكتوب بالعربية الفصيحة، باستثناء بعض السير الشعبية التي يختلط فيها الفصيح مع المحكي.
بل إن وحدة الثقافة العربية، ما كانت لتكون لولا العربية الفصيحة. وليس هذا فحسب، فنحن حتى الآن نصف الشاعر المنتمي إلى أي بلد عربي بالشاعر العربي، وحضوره عربي، بمعزل عن أصله وفصله. وقس على ذلك المفكر والفيلسوف والعالم والموسيقي والمغني. ومن الطرائف المضحكة، حديث بعضهم عن الأصول غير العربية لبعض الفلاسفة والشعراء، وهم بالأصل لم يكتبوا إلا بالعربية الفصيحة.
فماذا يعني قول بعضهم إن أحمد شوقي ليس من أصول عربية، وإنه ولد لأب شركسي وأم يونانية تركية، أو إن أباه كردي وأمه من أصول تركية أو شركسية، أو إن جدته لأبيه شركسية، وجدته لأمه يونانية. وهو أمير الشعر العربي في زمانه!
دعني أيها القارئ العزيز أُنهي كلامي بالقول: اللغة العربية هي أمنا، فلا تطعنوها باللغو والإهمال.
وإذا كانت الطفولة هي التربة الصالحة لغرس اللغة وإتقانها، فيجب أن نوطن أطفالنا في المرحلة العمرية الابتدائية المدرسية على القراءة والكتابة والحديث بلغتنا الرفيعة والغنية والجميلة.