في سابقة تحدث لأول مرة على متن طائرة رئيس ألماني، اصطحب فرانك فالتر شتاينماير، رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية، خلال زيارته إلى تركيا الأسبوع الماضي، عارف كيليش ومعه سيخ شاورما «دونر كباب» مجمدة تزن 60 كيلوغراماً، وكان معه أيضاً عدد آخر من الضيوف كنماذج لقصص نجاح المهاجرين الأتراك في ألمانيا. وكان جد عارف قد عمل سنوات في مصنع للحديد قبل أن يفتتح مطعماً للوجبات الخفيفة عام 1986. عارف كيليش قال: «الآن يأخذني الرئيس حفيداً إلى وطن أجدادي. أعتبر سفري في هذه الرحلة علامة تقدير كبيرة».
يشكل قطاع الكباب الألماني، الذي يبلغ حجم مبيعاته السنوية نحو 7 مليارات يورو، وفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، رمزاً لنجاح اندماج الأتراك. وسائل إعلام تركية تناولت الموضوع، فكتبت بوابة «ديكن» الإلكترونية عنواناً للزيارة يقول: «دبلوماسية الشاورما: الرئيس الألماني في تركيا». وكانت الشرطة التركية قد فرقت متظاهرين تجمعوا في محطة «سيركجي» للقطارات، وهي المحطة التي غادر منها آلاف الأتراك بلدهم في ستينيات القرن الـماضي للعمل في ألمانيا، وبينهم جد عارف كيليش، الذي تمتلك عائلته أشهر محل للشاورما في العاصمة الألمانية برلين منذ ثلاثة أجيال.
زيارة الرئيس الألماني، الذي يعد منصبه إلى حدٍ كبيرٍ فخرياً، تهدف إلى الاحتفال بمرور 100 عام على إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، وقد وصفت وكالة الصحافة الفرنسية الزيارة بالمعقدة، لتباين مواقف وآراء البلدين حول الكثير من القضايا، خصوصاً ما يجري من أحداث في منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
«دبلوماسية الشاورما» عنوان لافت للنظر، ليس فقط لأنه يحتوي على اسم طبق محبب إلى عدد كبير من الناس، وإنما لأن طريقة إعداد وتجهيز وشواء الشاورما، الذي يتم على نار هادئة عادة ويستغرق وقتاً، تتشابه كثيراً مع بعض طرق الدبلوماسية التي كُتِب عنها الكثير، وصدرت عنها مؤلفات عدة، لعل أشهرها كتاب «الأمير» للكاتب والمفكر السياسي الإيطالي نيكولو مكيافيلي، الذي هو رسالة بحثية في الفقه السياسي، أعدها عام 1513 أثناء وجوده مُبعَداً في قرية سانتاندريا بركوسينا، إثر عودة عائلة ميديشي عام 1512، لاتهامه بالمشاركة في مؤامرة بيير باولو بوسكولي ضد الميديشيين.
ورغم صغر حجم الكتاب، إلا أنه حظي باهتمام كبير منذ ظهوره، وأثار جدلاً واسعاً، وصار مادة ضرورية لدراسة علم السياسة في عصر النهضة، وما زال الجدل حوله قائماً حتى اليوم، حيث يدور الخلاف حول ما يشتمل عليه الكتاب من مضامين أخلاقية، إذ يبرر مكيافيلي القيام بأي عمل لتحقيق هدف تقوية الدولة والحفاظ عليها، حتى لو كان هذا العمل مخالفاً للقوانين والأخلاق.
أخذت مبادئ مكيافيلي شهرتها من إلغائه لأي صلة بين الأخلاق والسياسة، ونال مذهبه المعروف «الغاية تبرر الوسيلة» شهرة واسعة. ومنذ صدور الطبعة الأولى من الكتاب عام 1932، أصبحت المكيافيلية مدرسة ذات قواعد ثابتة ومعروفة. وسواء اتفقنا أم اختلفنا مع قوانينها ومبادئها، فقد شكلت مدرسة مكيافيلي واحدة من أكثر المدارس السياسية شهرة منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم.
ترى هل تأتي «دبلوماسية الشاورما» ضمن إطار قواعد ومبادئ المدرسة المكيافيلية، أم أنها تشكل مدرسة جديدة مستقلة؟
قبل التصدي للإجابة علينا أن نعرف أن ألمانيا عانت بعد الحرب العالمية الثانية من نقص شديد في العمالة، نتيجة أعداد الذين قضوا في الحرب، الأمر الذي دفعها إلى وضع برنامج لاستقدام العمالة من الخارج. لهذا وقعت عام 1961 اتفاقية مع تركيا لاستقدام العمالة التركية، وذلك لتعزيز الإنتاج المزدهر وقتها. من هذه البوابة دخل آلاف العمال الأتراك إلى ألمانيا كي يعملوا واستقروا هناك، حتى وصل عددهم اليوم 3.3 ملايين شخص، يحمل 1.2 مليون منهم الجنسية الألمانية.
إلى أولئك العمال المهاجرين ينتمي عارف كيليش، الذي حمله معه الرئيس الألماني في طائرته أثناء زيارته لتركيا، في الوقت الذي حمل فيه كيليش معه سيخ الشاورما الذي يزن 60 كيلوغراماً، احتفاءً بالأعوام الستين التي انقضت على توقيع اتفاقية استقدام ألمانيا للعمالة التركية، وهي حركة قد لا يكون فيها من الدبلوماسية قدر ما فيها من إلهام الآخرين استخدام أطباقهم الشهيرة كي يخرجوا لنا بدبلوماسيات جديدة ذات نكهات وروائح مختلفة.