بين عامي 2013 و2018 نفذت إسرائيل برنامجاً لترحيل اللاجئين والمقيمين غير الشرعيين لديها، إلى رواندا في شرق أفريقيا. في وقتنا الراهن، يتجه صانع القرار البريطاني إلى صرف النظر عن كافة الحلول والمقترحات المتداولة، لمواجهة موجات المهاجرين واللاجئين الذين حطوا رحالهم بالفعل في بلاده بالطرق غير المشروعة، ويصر على الاحتذاء بالنموذج الإسرائيلي.
محاكاة الدول لبعضها البعض، بقصد أو بدون قصد، في اجتراح الحلول للمشكلات المتماثلة أو المتقاربة الشبه من حيث الأبعاد والحيثيات، مسألة تبدو منطقية، غير أنه يصعب تبرير السلوك البريطاني بهذه القاعدة العامة، هذا ليس فقط لاحتمال تباين دوافع وأسباب توجه اللاجئين والمهاجرين إلى كل من إسرائيل وبريطانيا، وليس فقط للاختلاف الموضوعي التاريخي الشاسع بين البنى الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية في هذين«الملاذين»، وليس فقط لأن التجربة الإسرائيلية «الرائدة»، لا تلبي الاستحقاقات القانونية والأخلاقية لأطر حقوق الإنسان، سيما في شقها المتعلق بالمعالجات الأممية لقضايا اللجوء والهجرة، وإنما أيضاً وربما أساساً، لفشل البرنامج الإسرائيلي وصولاً إلى طيه والتخلي عنه.
تحت رعاية برنامجها، تمكنت إسرائيل من ترحيل نحو 4000 من المهاجرين واللاجئين، وبخاصة من أريتريا والسودان.
ومع أن الأمر جرى بشكل شبه سري ودون اتفاقات رسمية، إلا أنه ثبت في غضون فترة وجيزة أن معظم هؤلاء المرحلين، تأففوا من المحطة الرواندية بعد أن تيقنوا من افتقارها لشروط الحياة التي أملوا فيها يوم غادروا مواطنهم الأم، وأنهم، وهذا هو الأهم، لم يعجزوا عن اشتقاق سبل للإفلات أو الخلاص من هذه المحطة المقبضة وغير المأمونة، الأمر الذي انتهى بهم إلى الترجل في المرافئ والشطآن الأوروبية.. و«كأنك يا أبو زيد ما غزيت»!. صانع القرار البريطاني، والحال كذلك، ينحو إلى تجريب المجرب وتكرار سيناريو لفظه أصحابه ومؤلفوه.
وما يلفت النظر علاوة على هذه العبرة، أن النسخة البريطانية الجاري العمل عليها والترويج لها، تنحدر في بعض جوانبها إلى درك حقوقي أسفل من تلك الإسرائيلية. ومن ذلك أن الإسرائيلي وضع طلاب اللجوء أمام ثلاثة خيارات: العودة إلى الوطن، أو الذهاب إلى مراكز احتجاز (هي في حقيقتها سجون)، أو الحصول على 3500 دولار ورحلة ذهاب بلا رجعة إلى رواندا.
لكن البريطاني أغفل هذه الصفحة، إذ أغلق الدائرة على اللاجئين إلا من المخرج الرواندي الجبري.. ثم إن الإسرائيلي أخفى فعلته وغلفها بعباءة «الاتفاق الودي» مع رواندا، وكأنه يعلم أنها مثلبة ينبغي مداراتها عن الناس، فيما جهرت لندن بإعلان اتفاقها مع حكومة رواندا على الملأ منذ أبريل عام 2022.. في تحدٍ واضح للمستنكرين والرافضين الكثر لهذه الفعلة، داخلياً وخارجياً.
مؤدى ذلك أن قوى المحافظين في بريطانيا، الدولة الموصوفة بأم الديمقراطيات استمرأت، في تعاملها مع قضية اللجوء والهجرة، الانحراف عن سبل الرشاد الحقوقي والأخلاقي المتعارف عليها.. الأمر الذي توقفت إسرائيل عن إتيانه، رغم ما هو معلوم عن سجلها الحقوقي ماضياً وحاضراً، من تمرد وعصيان لأطر العدالة والقوانين والقرارات الدولية، في رحابها الداخلية ومحيطها الإقليمي على حد سواء.
نحن إزاء مفارقة غريبة مثيرة للحفيظة. ويدعونا السياق إلى استحضار واحدة من أبرز خصائص إسرائيل، وهي أنها في أصلها، وما زالت حتى اللحظة، دولة مستقبلة للمهاجرين، فما الذي يدعوها إلى مطاردة وطرد بعض منهم؟!.
كلمة الفصل في ذلك تتعلق على الأرجح، بسياسة الانتقاء والتخصيص للعناصر اليهودية أو غير اليهودية القابلة للصهينة والانغماس في مشروع «الدولة اليهودية». فمثل هؤلاء يرجى منهم الإضافة للدولة وليس الانتقاص منها أو إزعاج هويتها.
ويمكن المجادلة هنا بأن بريطانيا ذهبت مؤخراً، تحت ضغط العوز السكاني والحاجة إلى تعزيز دواليبها الاقتصادية، إلى تخفيف صلابتها القومية الشهيرة، والسماح باستقبال بعض اللاجئين والمهاجرين، بيد أن هذا التوجه أو المستجد، وبخاصة بفعل جائحة كورونا وتوابعها الكاشفة، يتقيد بدوره بسياسة انتقائية تنتفع منها العناصر الفتية والمؤهلة اللازمة لمواجهة هذا الضغط، ولا يفتح ذراعيه لكل من هب ودب بطرق بعيدة عن عين الدولة. من الجائز جداً تكييف أو تبرير السلوك البريطاني وفق هذا التفسير، الذي يصح رميه بالنفعية أو الانتهازية المادية.
ومع ذلك، ربما كان بوسع لندن، وما زال، مغازلة هذه المثل الرأسمالية على فظاظتها، من دون شحن اللاجئين والمهاجرين رغم أنوفهم مثل البضاعة المزجاة، إلى مصائر لا تختلف عن تلك التي تركوها وراء ظهورهم بشق الأنفس.