ذاك زمنٌ وهذا زمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا أميل كثيراً إلى المقالات المتسلسلة، وأعني بها تلك التي تتحدث عن موضوع واحد في حلقات متتالية، أو تعقّب على مقال سابق، خاصة إذا كان المقال أسبوعياً، على خلاف المقال اليومي الذي ربما يقبل التسلسل، نظراً لمحدودية الكلمات المتاحة لكاتب العمود اليومي، مقارنة بكاتب المقال الأسبوعي عادة، ولتقارب النشر في المقال اليومي، لأن ذاكرة القارئ كسولة، فهو لا يريد أن يجهد نفسه فيعود إلى مقال نُشِر قبل أسبوع، إذا لم يكن قد قرأه وقت نشره، وإن كنت أعذر بعض الزملاء كتاب المقالات الأسبوعية عندما يلجؤون إلى ذلك أحياناً، لضيق مساحة المقال المتاحة لهم.

ومع هذا فإن تعليقاً وصلني من أحد الأصدقاء تعقيباً على مقال الأسبوع الماضي، الذي كان عن تزاحم الشباب في المعرض الدولي للنشر والكتاب بالعاصمة المغربية الرباط، وتدافعهم في حفل توقيع الكاتب السعودي أسامة المسلم لرواياته، جعلني أقرر العودة إلى الموضوع، ولكن من زاوية مختلفة.

يقول تعليق الصديق، الذي أعتز بآرائه وفكره، إنه فعلاً خبر مفرح ويبشر بخير، لكن فرحته لم تكتمل لأنه ظن مؤلفات الكاتب المسلم على نهج الكاتب السعودي عبد الرحمن منيف، الذي وصفه بأنه عبقري.

أتوقف أمام هذا التعليق لأقول إن الظروف التاريخية والمناخ السياسي والفكري الذي ظهر فيه الكاتب عبدالرحمن منيف مختلفة عن الظروف التاريخية والمناخات السياسية والفكرية التي يكتب فيها المسلم وزملاؤه من كُتّاب عصرنا هذا، كما أن الزمن نفسه مختلف والتجربة مختلفة، فعبدالرحمن منيف، الذي تمتد أصوله إلى بلدة قصيبا الواقعة شمال إمارة منطقة القصيم في المملكة العربية السعودية، عاش حياته بين المنافي، إذا صح أن نطلق عليها هذا الوصف، متنقلاً بين الأردن التي وُلِد في عاصمتها عمّان عام 1933، وأتم مراحل دراسته الأولى فيها، وبين العراق الذي بدأ دراسته الجامعية فيه، قبل أن يتم إبعاده منه بقرار سياسي مع مجموعة من الطلاب العرب، وبين مصر التي انتقل إليها ليكمل دراسته فيها، قبل أن يرتحل عام 1958 إلى يوغوسلافيا، حيث حصل على الدكتوراه في الاقتصاد، ليستقر به المقام بعد ذلك في سوريا، حيث مارس العمل السياسي الحزبي زمناً قبل أن ينهي علاقته بالتنظيمات الحزبية ويبقى للعمل فقط بدمشق، ثم ينتقل إلى بيروت ليعمل في مجلة «البلاغ» اللبنانية، ليعود بعدها إلى بغداد ويتولى تحرير مجلة «النفط والتنمية» العراقية، ثم يرحل إلى فرنسا ليبقى فيها فترةً متفرغاً للكتابة، ليعود بعد ذلك إلى دمشق حيث توفي ودُفِن بها عام 2004.

هذا الترحال بين هذه العواصم المختلفة في زمن كانت البلدان العربية فيه تنتقل من مرحلة الاستعمار إلى مرحلة التحرر، وهي تموج بالأفكار التي تمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، تعصف بها الثورات والانقلابات والحروب، ويرتفع فيها سقف الآمال، ثم تطيح العواصف بهذه الآمال، وتتحطم على صخرة الواقع الذي فرضته الخلافات الأيديولوجية والسياسية بين الأنظمة العربية وقتها، والصراع على مناطق النفوذ ومراكز صنع القرار، والطموحات الشخصية لبعض القيادات والزعامات التي سطع نجمها وقتها.

هذا الترحال في منطقة كانت هي مركز صنع القرار في العالم العربي وقتها، وسط هذه الظروف، أثرى تجربة عبدالرحمن منيف، وجعله يوظف تجربته تلك في كتابة أعمال فكرية ونقدية أثرت المكتبة العربية، وجعلته ينتج أعمالاً روائية عظيمة، أهمها خماسية «مدن الملح»، الأمر الذي جعل كثيراً من النقاد والباحثين يذهبون إلى أن مسار السرد الروائي في القرن العشرين يمر عبر نجيب محفوظ ليذهب إلى عبدالرحمن منيف مباشرة.

هذه التجربة وهذه الأعمال، التي وضعت عبدالرحمن منيف في هذه المكانة، تجعل من الظلم أن نقارن بين أي كاتب آخر في عصرنا هذا وبينه، كما أن اختلاف الجيل الذي يقرأ للمسلم، وغيره من الكتاب الجدد، يجعل ما يكتبونه مختلفاً عما كان يكتبه عبدالرحمن منيف وكُتّاب عصره، وليس في هذا تقليل من مكانة الكاتب أسامة المسلم، ولا من مكانة زملائه الكتاب المعاصرين، ولا هو اتهام موجّه لذائقة هذا الجيل التي يشكلها بمفهوم زمنه المختلف، فذاك زمنٌ وهذا زمن.

 

Email