احتاج أن يخترع قارتين من خياله، سمى إحداهما «ويستروس» والثانية «إيسوس»، كي يوصل الفكرة التي أراد أن تصل إلى قارئ روايته المتسلسلة.

هذا هو ما فعله الكاتب الأمريكي، جورج مارتن، في رواية «أغنية الجليد والنار» التي صدر منها حتى الآن خمسة أجزاء، وفي الطريق جزء سادس وآخر سابع، ويُحتمَل أن تمتد إلى ثمانية أجزاء، كما ألمح كاتبها، بعد أن حققت أفضل مبيعاتٍ حول العالم، وتُرجِمت إلى أكثر من 30 لغة، وتم تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني.

كانت «لعبة العروش» هي الجزء الأول من سلسلة الروايات الخيالية، وقد نشرها في أغسطس من العام 1996، ثم أتبعها بالجزء الثاني الذي صدر باسم «صدام الملوك» عام 1999، وتلاه جزء ثالث باسم «عاصفة السيوف» عام 2000، ثم صدر الجزء الرابع باسم «وليمة للغربان» عام 2005، وصدر الجزء الخامس باسم «رقصة مع التنانين» عام 2011، وفي الطريق جزء باسم «رياح الشتاء» سيكون السادس، يليه جزء سابع باسم «حلم بالربيع».

سلسلة من الصراعات تدور على الكرسي، استلهم مارتن أحداثها من حرب «الوردتين» التي دارت على مدار ثلاثة عقود حول الأحق بكرسي العرش في إنجلترا بين أسرة «لانكاستر» وأسرة «يورك». كانت الوردة الحمراء خلال هذه الحرب شعار أسرة «لانكاستر»، بينما كانت الوردة البيضاء شعار أسرة «يورك»، الأمر الذي يعني أن الأحداث المتخيلة لها أساس على أرض الواقع، بل إن ما دار من صراعات على كرسي الحكم عبر التاريخ، مما قرأنا عنه في الكتب، وما نحن عليه شهود اليوم، يفوق الخيال، وينعكس على حياة الشعوب حروباً لا تكاد نيرانها تنطفئ أبداً، ويدعو إلى التأمل في مسار الحياة كلها، وما إذا كان الكرسي يستحق كل هذا الصراع عليه، حتى لو كان هو الأغلى من بين كل الكراسي، فتسيل من أجله أنهار من الدم غزيرة، وتزهق في سبيل الوصول إليه أرواح من البشر عزيزة، وتتحول من أجله المعمورة إلى خرائب وبيوت مهجورة.

ربما يبدو السؤال عن جدوى كل هذا معاداً ومكرراً، لكنه سؤال مطروح كل يوم، منذ أن تشرق الشمس بضوئها على الأرض وحتى يغادر آخر خيط من خيوطها أقصى بقعة على سطح الكرة الأرضية. فمع مطلع كل شمس ثمة خبر عن اختفاء أحد المتنافسين في «لعبة العروش» بطريقة غامضة، ومع غروب كل شمس ثمة سؤال عن أسباب محاولة إزاحة أحد المتنافسين في «لعبة العروش» عن طريق متنافس آخر. وبين هذا السؤال وذاك لا تكف المحركات عن البحث للعثور على إجابة منطقية لهذه الأسئلة، وليس ثمة منطق سوى أن «لعبة العروش» لا تخضع للمنطق، وإنما للمصالح والمخططات الكبرى للسيطرة على مقدرات الشعوب من خلال هذه الكراسي البعيدة عن الوهم والخيال والنيات الطيبة.

«لعبة العروش» الحقيقية هي التي تجعل أجهزة السلطات المختصة تطمس حقيقة أساسية وتضع مكانها حقيقة أخرى لا أساس لها، وتُدخِل دائرة المنافسة على الحكم من تشاء وتقصي عنها من تشاء، وتلغي قصة محتمَلة وتؤلف قصة أخرى، وتُسخِّر كل أجهزة الدولة كي تدفع إلى تصديق رواية كاذبة وتكذيب رواية صادقة، وتحوّل المسار من اتجاه إلى اتجاه، وتصنع واقعاً افتراضياً وتُلغي واقعاً حقيقياً، وتملأ السماء غيماً يتساقط مطراً وقتما تشاء، وتجعل الشمس تشرق وقتما تشاء، وتقلب النهار ليلاً والليل نهاراً، وترفع من تشاء فوق السماء وتنزل من تشاء تحت الأرض، وتجعل المستحيل ممكناً، وتجعل الممكن مستحيلاً، ولا يقف أمامها قانون ولا عقل ولا منطق أبداً.

«لعبة العروش» الحقيقية هي التي تحكم العالم وليست الألعاب التي نشاهدها بين أيدي أبنائنا وبناتنا، رغم أنها مستوحاة من تلك اللعبة الكبيرة، ربما لتُعِدّ أبناءنا كي يتقبلوا «لعبة العروش» الحقيقية التي تدور خلف الكواليس والستائر، حتى إذا ما كبر الأطفال أصبحت اللعبة مألوفة لديهم، وأصبحوا قادرين على استيعاب ما يدور حولهم من ألعاب الكبار الحقيقية، أو ربما جزءاً من هذه الألعاب وأداة من الأدوات غير النظيفة في أم الألعاب تلك وأكبرها.

إنها «لعبة العروش» الحقيقية، وليست التي تخيلها الأمريكي جورج ريموند ريتشارد مارتن في تلك الفانتازيا التاريخية الطويلة.