صاغ الإنسان مبادئ مجردة لأشكال التفكير الصحيح، أطلق عليها مبادئ المنطق الصوري، وصاغ مبادئ العقل بوصفها مبادئ التفكير الصحيح.
ويظن بعض الذين لا يربطون بين المنطق الصوري ومبادئ العقل بأن المنطق الصوري عاجز عن قول الحقيقة، فأشكال التفكير الصحيح قد لا تقود إلى نتائج صحيحة واقعياً. فإذا قلت بأن كل الأحجار ناطقة البقرة حجر إذاً البقرة ناطقة. فمن حيث الشكل الاستدلال صحيح، ولكن من حيث المضمون الاستدلال خاطئ.
إذاً من شروط صحة الاستدلال المنطقي أن تكون أحكامه واقعية وصحيحة: فالقضية الكلية والقضية الجزئية يجب أن تكونا واقعيتين:
كل إنسان فان، هذه قضية كلية صحيحة لأن كل إنسان فان سقراط إنسان، إذاً سقراط فان. إذاً يجب أن تكون قضايا المنطق صحية لكي تكون نتائجه صحيحة.
ومبادئ العقل هي ذاتها مبادئ مستخلصة من الواقع نفسه. فمبدأ السببية مجرد من العلاقات السببية الواقعية، ولهذا صاغ العقل هذا المبدأ بقوله بأن لكل ظاهرة سبباً، ثم أضاف مبدأ العلاقات السببية حين يكون هناك أكثر من سبب لتفسير الظاهرة وهكذا.
لكن منطق الحياة لا يخضع بالضرورة إلى مبادئ المنطق أو مبادئ العقل. فكم من الأوهام البشرية العالقة في العقل دون أن يكون لها سند واقعي أبداً، ويعتقد أصحابها بأنها حقائق واقعية.
ولهذا يظن بعض الناس أنهم يفكرون وهم لا يفكرون. ومعنى أنهم لا يفكرون أنهم لا ينطلقون من مبادئ المنطق والعقل والواقع. فهم مثلاً لا يميزون بين الممكن الحقيقي المرتبط بالسببية الواقعية والمستحيل.
فكل من يزعل من أحداث تاريخ قديم ولت شروط ولادته إلى غير رجعة ويعتقد أنه قادر على صناعة الواقع انطلاقاً من هذا الزعل التاريخي، واستعادة التاريخ القديم بشحمه ولحمه هو عملياً لا يفكر لأن لا علاقة له بمفهوم الممكن. كل من يعتقد أنه قادر على إعادة إنتاج صورة للتاريخ موجودة في الذاكرة لا يفكر. كل من يظن أن المصادفة التاريخية التي جعلت من أقلية تحكم أكثرية قادر على البقاء بمنطق احتكار القوة لا يفكر. كل من يحسب أن عصبية أيديولوجية بعينها قادرة أن تبقى حافزاً للممارسة دائماً وبعد الشروط التي أنتجتها لا يفكر. كل من يتصرف خارج منطق الحضارة المنتصرة عالمياً لا يفكر. كل من يستخدم مفاهيم معرفة قديمة نشأت في عالم قديم وأكل الدهر عليها وشرب لفهم الحاضر والمستقبل لا يفكر.
فإذا دخلنا عالم المجتمع والسياسة والأخلاق والقيم فإنا نواجه منطق الحياة، فنحن لا نستطيع أن نصوغ حكماً كلياً صادقاً يقول: كل الحكام صالحون، لأن ليس كل الحكام صالحين، لكننا نستطيع أن نقول بعض الحكام صالحون. لكن ماذا نقول لشخص يعتبر حاكماً سيئاً بأنه صالح؟ نقول إن منطق المصلحة لا يكترث بمنطق الحقيقة، وقد قيل قديماً بأنه لو كانت حقائق الرياضيات مناقضة لمصالح فئة ما لأنكرتها. فإذا كان منطق الحياة يقول بأن حقل السياسة الدولية هو حقل المصلحة، فإن الضحية الأولى الناتجة عن هذا الحكم هي الحقيقة من جهة، والقيم الأخلاقية من جهة ثانية.
لكن منطق الحياة لكي نفهمه نحتاج إلى مبادئ العقل، فالمصلحة سبب يفضي إلى نتيجة، ومبدأ الغائيّة هو الذي يفسر لي السلوك، وهكذا.
لكن تعقيد الحياة مسألة تفضي إلى صعوبة فهمها، سواء تعلق الأمر بالفرد أو بالجماعة. فظاهر السلوك قد لا يعبر عن باطنه، وهكذا. فمنطق الحياة العملية القيمية والأخلاقية والعاطفية لا يمت إلى منطق أرسطو دائماً فلو كان منطق الحياة هو منطق لعشنا في أمان وهناء. فالحكم الأخلاقي بأن قتل الأطفال جريمة، وهذا حكم كلي، (س) قاتل الأطفال إذاً (س) مجرم. لكن هناك من لا يرى (س) مجرماً، وهكذا.
فليسأل كل واحد منا نفسه ترى هل يفكر وينظر للآخر، ويسأل هل يفكر الآخر هذا.