تنطلق الأحد 30 يونيو 2024 الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية المبكّرة في فرنسا وسط مناخات استقطاب تسيطر عليها القوى الحزبية المتطرّفة من اليمين واليسار، وفي وجود مؤشّرات عديدة على تهاوي منتظر للقوى الوسطية وأساساً الأغلبية الرئاسية الحاكمة.

ويُجمع المتابعون على أنّ هذا الموعد الانتخابي الاستثنائي يأتي في ظروف صعبة وغير مناسبة، أوّلاً، نظراً للسياق السياسي الذي تنزّلت فيه، والذي تميّز بالخصوص بوجود ديناميكية سياسية جديدة تخدم مصالح اليمين المتطرّف، وهو ما أكّدته نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة التي أعطت كلّ مكوّناته قرابة 40 في المائة من مجمل الأصوات والمقاعد، وثاني هذه الأسباب يعود إلى بداية انطلاق الحدث الرياضي الأهمّ في العالم، الألعاب الأولمبية، والذي تنظمه فرنسا بعد أيّام.

ويبدو أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي قرّر في خطوة مفاجئة تنظيم انتخابات سابقة لأوانها، قرأ المشهد السياسي بصورة مغايرة وقد يكون رأى في التطوّرات والتداعيات السياسية التي أحدثتها «صدمة» نتائج الانتخابات الأوروبية، فرصة سانحة لإكمال «مهمّة» القضاء على مكوّنات المشهد الحزبي التقليدي والتي «بشّر» بها منذ بداية عهدته الرئاسية الأولى في 2017.

ومعلوم أنّ الرئيس الفرنسي حاول منذ ذلك الحين تهميش كلّ أشكال الوسائط الحزبية والنقابيّة والمجتمعية عموماً، وهو ما قاده إلى بعض النجاح النسبي وخصوصاً في علاقة بأحزاب تداولت على الحُكْمِ في فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

ويُعاب على ماكرون من طرف المعارضة، نزوعه الدائم إلى ممارسة الحُكْمِ بصفة انفرادية، ولم تستثن في تقديرهم حتّى مؤسّسات الدولة من عملية التهميش، ومن ذلك، المؤسّسة البرلمانية وكذلك الحكومة، ومثّل لجوء حكومات ماكرون المتعاقبة إلى فرض قوانين باستعمال آليات سلطوية، متضمَّنَة لا محالة في الدستور، أمثلة على ذلك، رأى فيه نواب المعارضة في البرلمان والنواب عموماً، تعدّياً صارخاً على الدستورية وحقّهم في المناقشة والتصويت على مشاريع القوانين المعروضة على البرلمان الفرنسي.

ولا يختلف اثنان في أنّ الكفاءة الفنّية للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لا لبس فيها من حيث تمكّنه التامّ من الملفّات، ولكنّ سبع سنوات من ممارسته للحُكْمِ شكّلت في المجتمع الفرنسي ولدى جلّ هذه الأطراف الحزبية والنقابيّة نوعاً من الإجماع على رفض الممارسة الانفرادية للسلطة وحتّى وإن كان صاحبها من ذوي الكفاءة الاستثنائية، مثل الرئيس إيمانويل ماكرون.

وتؤكّد تجارب الأمم والشعوب أنّ ممارسة الحُكْمِ تقوم أساساً على الفهم العميق لمنطق وسياقات التاريخ وهو ما يفترض ضرورة، إضافة إلى التمكّن المعرفي والفنّي، وجود رؤية سياسية تخضع لنواميس وقوانين العمل السياسي الذي حملته جينة المجتمعات الإنسانية على مدى الأحقاب.

ولا يستقيم والحال هذه أن تكون ممارسة الحُكْمِ والسلطة في تعارض مع هذه التجارب الإنسانية التي تخلّصت وبالتدريج من السلطة المنفردة للحاكم إلى أخرى أخذت مع السنوات الشكل المؤسّسي الذي بلغ أعلى المراتب وأرقاها في تطوّر شراكة مع مؤسّسات المجتمع المدني في علاقة محكومة بعقد اجتماعي وسياسي وأخلاقي جديد، يثبّت المشترك من القيم والسياسات العامّة والأهداف المجتمعية الكبرى.

إنّ الانتخابات البرلمانية الفرنسية التي تُخاض جولتها الأولى الأحد 30 يونيو هي نتيجة مباشرة لسياسات لم تأخذ في الاعتبار معاني حركة التاريخ وهي لذلك تهدّد بشكل مباشر تماسك المجتمع الفرنسي الذي يشهد انقسامات حول القيم وحول البرامج والسياسات، وتغيب عنه النقاشات العامّة في المسائل الكبرى مثل الصحّة والتعليم والاقتصاد البديل، وفي المقابل تركّز الأطراف فقط عمّا يفرّق وهو ما تؤكّده استطلاعات الرأي التي تُعطي اليمين المتطرّف والمتحالفين معه 40 في المائة من نوايا التصويت واليسار قرابة 28 في المائة، وقوى الوسط التي تمثّلها أغلبية الرئيس ايمانويل ماكرون 18 في المائة، وقد لا يمكن قلب هذه الاستطلاعات خلال الجولة الثانية من الانتخابات المزمع عقدها يوم 7 يوليو المقبل.

إنّ فرنسا ومعها عديد الدول الأوروبية وغيرها، مقدمة على مرحلة انتقالية صعبة على استمرار تماسك الدولة والمجتمع، وإنّ نظام المناعة القيمي الذي يُفترض أنّه يحمي المجتمعات متى انحرفت بها السبل قد يقوم بدوره إذا توفّرت أسباب ذلك وهي عديدة ومعقّدة، والأكيد أنّ عالمنا الذي نعيش فيه يشهد وسيشهد تطوّرات كبرى فيها الإيجابي والسلبي، ولكنّنا نراها على المدى البعيد في صالح البشرية.