نشهد في الآونة الأخيرة تدخل الأيديولوجيا القومية والإقوامية والدينية والطائفية طريقة يتناول فيها المؤرخون أو المثقفون تاريخ حضارات الشرق، أو أي مرحلة من التاريخ بتعصب وانحياز، وفي أثر هذا تظهر النزعة التعصبية بأعلى حالتها المجافية لكل موضوعية، وليس لهذا التناول الأيديولوجي أي قيمة عملية حاضرة، ولا قيمة معرفية، وبخاصة إذا امتلأ القول بالأكاذيب والوقائع المتخيلة.

وليس هذا فحسب، فما هو مدعاة للسخرية نفي فضل العلماء والفلاسفة والأدباء العرب في تكوين العلم والمعرفة والفلسفة والنقد، والقول بأن كل ما سبق من إبداع فإنه بفضل غير العرب.

بل ماذا يعني الاختلاف الآن حول أصل صلاح الدين الأيوبي وفصله فيما إذا كان كردياً أو عربياً؟

إنه ببساطة ثمرة من ثمرات الحضارة العربية الإسلامية. وما معنى ذمه من قبل بعض الدارسين والطوائف؟ لا يعني شيئاً أبداً، والحق إن وحدة الحضارة العربية الإسلامية التي شهدت تمازح أقوام كثيرة لا تسمح بالحديث عن أصل هذا العالم أو ذاك، أو هذا المفكر وهذا الأديب إلخ.

ولقد شهدنا في الآونة الأخيرة ظاهرة تناول تاريخنا العربي القديم بنوع من التزوير الذي لا يليق بآثار الوقائع وبالوثائق المكتوبة، وكل ذلك من أجل نفي عربية حضارات ما قبل قيام الإمبراطورية العربية الأموية، كحضارة الأنباط وتدمر وتغلب وطي وكندة إلخ.

أما تناول تاريخ صدر الإسلام وتاريخ الدولتين الأموية والعباسية من قبل المتعصبين القوميين والمتعصبين الطائفيين بنوع من القدح والذم فحدث ولا حرج.

إن هذا لا يليق بالعقل التاريخي الذي لا يستند في فهم التاريخ إلا على الوثائق أياً كانت. فكل رواية تاريخية أو سردية تاريخية خالية من الوثائق التاريخية المكتوبة أو ذات الأثر العمراني الباقي لا يُعول عليها أبداً.

وتأويل التاريخ وتفسيره بعيد كل البعد عن التقويم والانحياز، والذم والقدح وأحكام الانتقام المعاصر من التاريخ الذي جرى. فكل تاريخ الحضارات البشرية تاريخ حروب وصراعات وإبداع وثقافة وعلم وعمارة، ولهذا لا يُحكم على تاريخ الدول والحضارات القديمة أحكاماً أخلاقية أو بما كان يجب أن يكون.

ومن أسوأ مظاهر التخلف في تناول التاريخ نقل صراعاته القديمة إلى حياتنا المعاصرة، وهذه ظاهرة لا عقلية لسبب مهم ألا وهو إن نقل الصراع الماضي إلى حياتنا لا يولد ولن يولد إلا أحقاد الثأر والكره بين أبناء الوطن الواحد. وهذا الحقد والكره لن يغير من وقائع الماضي أي واقعة.

إن الانتماء إلى الحاضر يعني صناعة حاضر يليق بحياة الإنسان، بما يحقق السعادة والأمن والإيمان بمستقبل أفضل.

لا شك بأن فهم الماضي بوصفه موضوع علم التاريخ مختلف كل الاختلاف عن محاكمة الماضي من جهة، وعن البقاء في الماضي من جهة أخرى.

وقد كتبنا سابقاً عن الأثر السيئ للمدخل الأيديولوجي لكتابة التاريخ وفهمه، ومرة أخرى نعود إلى جدنا ابن خلدون المتوفى 1406 في القاهرة الذي قال في مقدمته الشهيرة:

«أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال، وتُشد إليه الركاب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال ويتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدى لنا شأن الخليقة كيف تقلب بها الأحوال، واتسع للدول النطاق فيها والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق».