كثرت تساؤلات مراقبي الشؤون الآسيوية حول الزيارة المفاجئة القصيرة التي قام بها مؤخراً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بيونغيانغ، والقمة التي جمعته بديكتاتور كوريا الشمالية «كيم جونغ أون».
تساءل أحدهم عن أسباب الزيارة من بعد انقطاع دام نحو ربع قرن، وتساءل آخر عما إذا كانت الزيارة طلباً لمساعدة كورية شمالية لروسيا في حربها المحتدمة مع أوكرانيا، وتساءل ثالث عن توقيت الزيارة في وقت تأزمت فيه العلاقات بين الكوريتين على خلفية «حرب المناطيد»، وتوترت فيه الأوضاع في مضيق تايوان بين تايبيه وبكين، وتساءل رابع عن مغزى عدم مشاركة الصين في القمة.
مما لا شك فيه أن منطقة شمال شرق آسيا بؤرة تصادم خطيرة بين الشرق والغرب، ومؤهلة لاندلاع حروب وتفجر أزمات تزيد الأوضاع الدولية تأزماً وخللاً، بل يمكن وصفها بـ«منطقة الجغرافيا السياسية المعقدة» بتعبير «دانييل سنايدر» المحاضر في السياسة الدولية ودراسات شرق آسيا بجامعة ستانفورد الأمريكية. حيث يتواجه في هذه المنطقة مثلث بكين ــ موسكو ــ بيونغيانغ، مقابل مثلث واشنطن ــ طوكيو ــ سيئول.
أما زيارة بوتين لبيونغيانغ، التي تم خلالها توقيع اتفاق لتشكيل شراكة استراتيجية شاملة بين البلدين المعادين للغرب شاملة مجموعة من الروابط الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية، إضافة ــ وهذا هو الأهم ــ إلى تعهدات بالمساعدة المتبادلة في حالة العدوان على أي منهما (نص الاتفاق في مادته الرابعة على أنه «في حالة وقوع أي من الطرفين في حرب بسبب عدوان مسلح من دولة منفردة أو دول عدة، يجب على الطرف الآخر أن يقدم على الفور المساعدة العسكرية وغيرها من المساعدات بجميع الوسائل المتاحة»)، فقد أثارت لدى المراقبين ذكريات الزمن السوفييتي، وتحديداً نقطة التحول التاريخية التي تمثلت في إعطاء الزعيم السوفييتي الحديدي «جوزيف ستالين»، وبموافقة نظيره وحليفه الصيني «ماو تسي تونغ» الضوء الأخضر للرفيق «كيم إيل سونغ» (جد الرئيس الكوري الشمالي الحالي) لغزو كوريا الجنوبية مطلع خمسينيات القرن العشرين.
صحيح أن الزمن تغير، والصين تلك الحقبة غير الصين اليوم، وكذا بالنسبة لروسيا. لكن الصحيح أيضاً هو أن الصين لا زالت الداعمة الرئيسية لكوريا الشمالية ونظامها الحديدي وسلالتها الحاكمة.
ورغم ذلك فهي لا تريد أن تدعم الحسابات الاستراتيجية الروسية الخاصة بكوريا الشمالية على غرار ما حصل في عام 1950، ولذا فضلت ألا تشارك في القمة، خصوصاً وأنها لا تريد إثارة اليابان وكوريا الجنوبية، وكلتاهما من شركائها الاقتصاديين الكبار.
بل إن بكين سعت مؤخراً إلى استئناف حواراتها معهما من أجل التفاهم والاستقرار بدلاً من الصراع كما تقول، وإنْ قيل إنها تحاول دق إسفين بين واشنطن وحليفتيها الآسيويتين الكبيرتين.
أما روسيا فقد ابتعدت عن كوريا الشمالية لسنوات منذ ظهورها كدولة مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لكنها تعود اليوم لتحتضنها باعتبارها ضحية لخصومها الاستراتيجيين، وبعبارة أوضح ضحية مشتركة للضغوط الغربية والهيمنة الأمريكية.
وفي اعتقادنا أن تحرك الرئيس بوتين صوب كوريا الشمالية وتوقيع اتفاق شراكة استراتيجية معها، إنْ لم يكن رداً على مواقف الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو من الحرب في أوكرانيا، فلعله بداية تحرك للرد على الشراكة الأمنية الآخذة في الترسخ بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية والتي تحاول الدول الثلاث إضفاء الطابع المؤسسي عليها منذ اجتماع قادتها العام الماضي في منتجع كامب ديفيد، علماً بأن تطورات قد تحدث على صعيد هذه الشراكة قريباً حينما يحضر قادة اليابان وكوريا الجنوبية قمة الناتو المقرر عقدها في شهر يوليو، لا سيما وأن الكوريين الجنوبيين ينظرون إلى الاتفاقية الروسية ــ الكورية الشمالية بعين القلق، بدليل ما ورد في افتتاحية صحيفة «دونغا إلبو» اليومية الصادرة في سيئول في الثامن عشر من يونيو الجاري من أن كيم جونغ أون ونظيره بوتين يسعيان من خلال اتفاقية الشراكة بينهما إلى خلخلة الوضع الراهن باتجاه الفوضى وعدم الاستقرار.
ومثل هذا الموقف يتطابق مع مواقف الأمريكيين التي عبر عنها مسؤول الأمن القومي الأمريكي السابق «فيكتور تشا» بقوله: «قمة كيم ــ بوتين تمثل أكبر تهديد للأمن القومي الأمريكي منذ الحرب الكورية»، ويتطابق أيضاً مع موقف المراقبين في أوروبا التي عبرت عنها مجلة الإيكونوميست البريطانية حينما وصفت الشراكة بين موسكو وبيونغيانغ بأنها «محور استبدادي أنيق، وأكثر من مثلث حب فوضوي».