حوار مع حاسوب «2»

ت + ت - الحجم الطبيعي

قال في نبرة عتبٍ: لماذا هجرتني كل هذه المدة؟

قلت مستغرباً: أنا لم أهجرك يوماً واحداً، بل لعلني قضيت معك وقتاً أكثر من الذي قضيته مع أسرتي وأصدقائي خلال الفترة الماضية.

قال وهو يومض في تبرمٍ: قصدت بالهجران أنك لم تحاورني منذ مدةٍ كما كنت تفعل.

قلت له: الآن فهمت. تقصد أن أكثر من نصف عامٍ قد مضى على ذلك الحوار الذي دار بيننا، ونشرته في هذا المكان؟

قال مبتسماً: نعم، الآن فهمت.

قلت: لا أعرف إذا كان نصف العام يبدو زمناً طويلاً كما كان، أم أن سرعة وتيرة مرور الزمن هذه الأيام جعلت الشهور والأعوام تفقد قيمتها التي كنا نشعر بها عندما كنا صغاراً.

سكت الحاسوب، ينتظر أن أكمل، فأكملت: كان الزمن يمتد أمامنا فسيحاً، ونحن نظن أن بإمكاننا أن نغترف منه قدر ما نشاء، حتى إذا ما اغترفنا منه ما نعتقد أنه كثير أحسسنا أن هذا الذي اغترفنا يسير لا يرضي نفوسنا التي لا نكتشف الشره الذي يملؤها إلا بعد أن نكون قطعنا مراحل كثيرة من الزمن، يصعب علينا العودة إليها.

قال: ما زلت أنتظر منك جواباً.

قلت في شيء من الضيق الذي يخالج النفس أحياناً: ربما لأنني ما زلت أشعر بالمتاهة التي حدثتك عنها في المقال الأول، وحاولت أنت أن تتذاكى عليّ حينها مدعياً عدم الفهم.

قال والابتسامة ما زالت على وجهه: في ادعاء عدم الفهم منجاةٌ هذه الأيام يا عزيزي، فلا تستهن بالذين يتذاكون مدعين عدم الفهم لأنهم ربما كانوا يفهمون أكثر من غيرهم.

قلت: أنت أكثر المخلوقات، إذا صح أن أسميك مخلوقاً، علماً بأسراري، فأنت تعرف كيف أفكر، وكيف أكتب، وكم كتبت، وكم أبقيت مما كتبت وكم مسحت، وكم نشرت مما كتبت وكم لم أنشر، وكم تحتوي سلة (Recycle bin) لديك من موضوعات محالة إليها للمسح أو إعادة التدوير.

قال: ألم تندم يوماً على شيء كتبته، وتمنيت لو أنك لم تكتبه، أو تمنيت بعد أن نشرته أنك لم تفعل؟

قلت: نعم، لقد ندمت على أشياء، وإن كانت قليلةً، كتبتها ونشرتها، وتمنيت لو أنني لم أفعل، لكنني وجدت لنفسي مبرراتٍ كثيرة، واختلقت لنفسي أعذاراً مقبولةً.

قال وكأنه لم يدفعني إلى اعترافٍ لم يكن محسوباً: وهل تمنيت لو أنك كتبت شيئاً قرأته لغيرك، وأحسست تجاه كاتبه بشيء من الغيرة؟

قلت: نعم، حدث هذا كثيراً، لكنها غيرةٌ من ذلك النوع الذي يدفع إلى التنافس لا الحسد كما قد يتبادر إلى أذهان البعض فيرددون في سرهم سورة «الفلق».

قال متصنعاً القلق: أخشى عليك من الدخول في حالةٍ من الكآبة كما حدث للكثير من الكُتّاب والمفكرين الذين كان مآل بعضهم الانتحار.

قلت في تواضع غير متصنع: أنت تبالغ كثيراً في تصنيفي يا عزيزي، فأنا لست أرنست همنغواي، ولا أنا خليل حاوي، ولن أكون يوماً فصلاً في كتاب محمد جابر الأنصاري «انتحار المثقفين العرب».

قال محاولاً الاعتذار: معاذ الله أن أقصد ذلك، ولكن يبدو أن التوفيق خانني فأسأت التعبير مثلما خانك أنت التقدير في بعض ما كتبت ونشرت.

قلت: لكنني بشرٌ معرضٌ للصواب والخطأ، أما أنت فحاسوبٌ مبرمج وفق تقنية بالغة الدقة لا تقبل الخطأ.

قال مجدداً الاعتذار: أنا حاسوب يا سيدي، ولست روبوتاً.

قلت وأنا أريد أن أطوي هذه الصفحة من الحوار: لا عليك، فأنا لم أقصد توبيخك، ولكنني أردت أن أبعد عن نفسي شبهة التفكير في الانتحار لأنها لا تليق بي.

قال محاولاً الالتفاف على الموضوع: لعلك تعيش أسعد أيامك إذاً؟

قلت وقد أدركت غرض حاسوبي: ليس ثمة ما نستطيع أن نطلق عليه أسعد أيامنا، فما نعتقد اليوم أنه أسعد الأيام قد تأتي أيامٌ أكثر سعادةً منه، وما نعتقد أنه كان ذات يوم أتعسها قد نكتشف بعد حينٍ أنه كان من أسعدها. الأيام تعلمنا كل يوم درساً يلغي الدروس التي قبله، أو يصححها. إنها سجلّ مسراتنا وأوجاعنا التي كتب عنها الراحل فؤاد التكرلي.

كانت هذه آخر جملة قلتها قبل أن ينطفئ الحاسوب، وينقطع الحوار إلى حين.

Email