شهدت الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية تطوراً لافتاً مع تحقيق حزب التجمع الوطني المنتمي لليمين المتشدد بزعامة مارين لوبان مكاسب تاريخية تصدر بها المشهد السياسي الفرنسي.
حيث حصل الحزب وحلفاؤه على 33% من الأصوات، في حين جاء تحالف الجبهة الشعبية اليساري في المركز الثاني بحصوله على 28% من الأصوات. أما تحالف الوسط الذي ينتمي له الرئيس إيمانويل ماكرون فقد مُني بنكسة ثقيلة مع حصوله على 20% فقط من الأصوات.
وهذا الصعود القوي لليمين المتشدد في فرنسا ليس بالأمر الجديد أوروبياً بطبيعة الحال، فقبل أسابيع قليلة، حقق هذا التيار مكاسب كبيرة في انتخابات البرلمان الأوروبي.
إذ زاد هذا التيار رصيد مقاعده بأكثر من 60 مقعداً مقارنة بانتخابات 2019، وتصدرت الأحزاب اليمينية المتشددة مثل حزب الحرية اليميني المتطرف (FPÖ) النمساوي، وحزب إخوة إيطاليا (FdI) اليميني المتطرف، وحزب التجمع الوطني في فرنسا، قائمة أكثر الأحزاب التي تم انتخاب أعضائها في الاتحاد الأوروبي على مستوى الدول التي تنتمي إليها.
كما حققت الأحزاب اليمينية المتشددة في ألمانيا وإسبانيا وهولندا وبولندا ودول أخرى مكاسب فاقت التصور في الانتخابات الأوروبية. وسبق ذلك أيضاً نجاح حزب إخوة إيطاليا اليميني المتشدد الذي تتزعمه رئيسة الوزراء جيورجيا ميلوني في تشكيل الحكومة الإيطالية بعد المكاسب التي حققها في الانتخابات.
هذا الاتجاه الأوروبي نحو اليمين المتشدد يعكس تغير المزاج العام للناخب الأوروبي، والذي بدأ يضيق ذرعاً من بعض السياسات الأوروبية، ولا سيما المواقف المرنة تجاه قضية الهجرة في وقت تتزايد فيه النزعات المناهضة للمهاجرين في دول القارة المختلفة.
ولا سيما مع تراجع المؤشرات الاقتصادية وارتفاع مستويات التضخم وانخفاض مستويات المعيشة في كثير من الدول الأوروبية. كما تتخوف تيارات عدة في أوروبا على الهوية الوطنية لبلادها أمام موجات نزوح اللاجئين والمهاجرين التي لا تتوقف، وخاصة أن كثيراً من هذه الفئات المهاجرة لا ترغب في الاندماج في المجتمع الأوروبي، وفي بعض الأحيان تحاول فرض هويتها على الهوية الوطنية في الدول التي تقيم فيها.
لكن الأهم من تفسير سبب اتجاه أوروبا نحو اليمين المتشدد، هو فهم حدود التأثير الذي سيُحدثه مثل هذا التغيير في السياسات الأوروبية، وهو في اعتقادي كبير ومتشعب.
ولعل أولى القضايا التي يُتوقع أن تتأثر بهذا التغير هي مستقبل الاتحاد الأوروبي نفسه مع ميل الأحزاب اليمينية إلى تغليب المصالح القُطرية على حساب المصلحة الأوروبية المشتركة، ومن ثم يُتوقع أن تتراجع السياسات الخاصة بتوسيع الاتحاد الأوروبي مثلاً بما في ذلك تعطيل خطط انضمام أعضاء جدد كأوكرانيا. ومن هذه القضايا بالطبع قضية الهجرة.
حيث سيؤدي صعود اليمين المتشدد في أوروبا، على الأرجح، إلى فرض مزيد من القيود على الهجرة، بما يتماشى مع سياسات هذه الأحزاب الرامية إلى الحد من الهجرة غير الشرعية وطلبات اللجوء .
كما ستتأثر قضايا أخرى مثل قضية البيئة والتغير المناخي مع تراجع الاهتمام بهذه القضايا في أجندة الأحزاب اليمينية، بل إن صعود هذه الأحزاب جاء بالدرجة الأولى على حساب أحزاب الخضر ودعاة حماية البيئة الذين كانوا أكبر الخاسرين في الانتخابات الأوروبية.
إضافة إلى قضية الحرب في أوكرانيا التي يخشى البعض من تراجع الدعم الأوروبي لكييف كنتيجة لهذا الصعود اليميني، ولا سيما أن كثيراً من الأحزاب المحسوبة على هذا التيار لا ترحب بتقديم أي دعم لكييف، بل إن بعضها يبدو أقرب لروسيا.
إن اتجاه أوروبا نحو اليمين المتشدد والذي كشفته التطورات السياسية الداخلية الأخيرة في القارة، يبدو أنه سيستمر في التصاعد مع تنامي الأزمات الأوروبية، ولا سيما الاقتصادية، ومعه سنشهد تغيرات كثيرة في السياسات الأوروبية التقليدية، والتي قد تؤثر في شكل العلاقات الأوروبية الداخلية والخارجية برمتها.