تخوض الولايات المتحدة انتخابات مصيرية هذا العام في ضوء احتقان واستقطاب كبيرين لم تشهدهما الولايات المتحدة منذ عقود.
فترة الستينيات كانت فترة خلافات سياسية واستقطاب حول حرب فيتنام والثقافة المخالفة للأعراف السائدة. وكانت أيضاً فترة الحركة النسوية، وحركة حقوق السود المدنية والتي استطاعت أن تكسب حقوق مواطنة أساسية.
كان الشباب في تلك الفترة يتساءلون عن شرعية النظام الاجتماعي والسياسي والثقافي والذي أدى إلى الزج بهم في أتون حرب في جنوب شرق آسيا، لم يروها مبررة.
ولكن حينها كانت المؤسسات الأمريكية السياسية والاجتماعية متماسكة وقوية واستطاعت تجاوزها، لكن لا أحد يستطيع أن يدّعي أنها خرجت أقوى.
وقد تبعت هذه الأزمة الوطنية أزمة ووترغيت والتي أطاحت بالرئيس القوي ريتشارد نيكسون في أواسط السبعينيات من القرن المنصرم.
ولكن إلى حد ما اشتغلت المؤسسات لتعديل الاعوجاج. وفعلاً مضت إلى أوضاع أكثر استقراراً في العهود اللاحقة.
السبب لاستعادة التوازن إبان الأزمات هو الحد الأدنى من المشترك بين الفئات المجتمعية والسياسية. كانت القوانين والدستور الأمريكي والمؤسسات السياسية والقانونية الفيصل في الخلافات.
وكانت مؤسسات الحكم تستطيع استيعاب الفئات المهمشة وتحتضنها لمواجهة سيل الاحتجاجات في الولايات المتحدة.
لكن ما نشهده اليوم يختلف كثيراً. ليس هناك حد أدنى مشترك بين الفئات المستقطبة أيديولوجياً. بل ليس هناك فهم مشترك لكثير من القضايا المهمة.
وحتى أهم مؤسسة دستورية في البلاد وهي المحكمة العليا أصبحت مسيسة منذ التعيينات الأخيرة التي قام بها الرئيس السابق والمرشح الجمهوري الحالي دونالد ترامب. فبدلاً من أن تفسر المحكمة الدستور أصبحت تشرّع القوانين.
الانتخابات بحد ذاتها ترياق للخلافات السياسية في المجتمعات الديمقراطية، حيث تلعب دور المراقب الشعبي للساسة وسلوكهم. وهي الحكم لحسم الخلافات.
ما نراه في الحالة الأمريكية أن هذه الأداة المقدسة والمؤسسة الجليلة لم تعد تجدي إذا ما شكك المرشحون والناخبون بنتائجها، بل إنها أصبحت أداة سخط ومعول هدم إذا لم يكن هناك توافق على قواعد اللعبة.
فلا غرو أنه أثناء المناظرة الأخيرة لم يقبل أحد المرشحين أن يتعهد بقبول نتائج الانتخابات إذا خسرها! فالانتخابات هنا عامل تزيد من الشرخ ولا تجسره.
المجتمع والدولة في الولايات المتحدة يقومان على هياكل راسية منذ قرنين ونصف القرن. كانت هناك انشقاقات كبيرة كما حصل في الحرب الأهلية في 1861 استطاعت الولايات المتحدة بكثير من الدم والألم والمال أن تتخطاها. ودخلت في مخاضات عديدة تولد منها نظام مؤسساتي أقوى.
المشكلة أن الولايات المتحدة تمر هذه المرة باختبار حقيقي بعدما أصبحت القيم الأمريكية محطة خلاف. هل الولايات المتحدة دولة لمواطنيها بأشكالهم المختلفة وألوانهم المتنوعة؛ أم هي أرض البيض المسيحيين الأوائل والذين أتوا واستعمروا البلاد حتى أصبحت أقوى دولة في التاريخ البشري.
هذا من ناحية القيم. أما من ناحية البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فيقول المؤرخ العلمي، بيتر تورشين، إن كل المجتمعات تمر في دوائر تاريخية صعوداً ونزولاً. وقد مرت بلاده التي هاجر منها الاتحاد السوفييتي بنفس الدائرة. ويرى أن الولايات المتحدة مؤهلة إلى هكذا مصير.
ويرى في عاملين مهمين في المجتمع الأمريكي يجعل منه مؤهلاً للانقسام أو الثورة الشعبية. الأول ضخ الثروة والتي يستحوذ عليها الأغنياء يؤدي إلى خلل في التوازن بين النخبة وعموم الشعب. ومع تزايد إنتاج نخب بسبب التعليم وانغلاق سبل استيعابهم، فإن السخط يتزايد من النخب الطامحة لانعدام الفرص.
ظاهرة ترامب تنبأ بها تورشين كما توقع أحداث 2020 كنتيجة للإرهاصات التي شهدتها الولايات المتحدة. ترامب مجرد ممثل لما تشعر بها قطاعات واسعة، وإذا غاب ترامب عن الساحة فإن عباءته سيلبسها الكثيرون. أمريكا حقاً على مفترق طرق.