من هنا إلى يوم 5 نوفمبر الذي تجرى فيه انتخابات الرئاسة الأمريكية، سنكون على موعد مع الكثير مما يبدو فوق القدرة على الاستيعاب.
من ذلك، على سبيل المثال، ما جاء في استطلاع الرأي الذي قامت به شبكة سي إن إن الأمريكية، في أعقاب المناظرة التي جرت بين الرئيس الأمريكي جو بايدن، والرئيس السابق دونالد ترامب، اللذين يتنافسان في السباق الرئاسي إلى البيت الأبيض.
المناظرة جرت مساء 27 يونيو في ولاية أتلانتا، واستحوذت على اهتمام الدنيا كلها، وكانت الأنظار تتجه جميعها إلى حيث كان المتنافسان الرئاسيان يتناظران على مرأى من العالم، الذي كان يتابع بأعصاب مشدودة وهو لا يكاد يصدق.
أما استطلاع الرأي فقد جرى من خلال عينة من الأمريكيين الذين تابعوا المناظرة، ومن خلاله تبين كما أعلنت الشبكة أن 67% من أفراد العينة يميلون إلى ترامب، وأنهم يعجبهم أداؤه في المناظرة، ويتجهون بالتالي إلى انتخابه عندما يأتي يوم الاقتراع، بينما كان نصيب بايدن في المقابل 33%، وهي نسبة قليلة كما نرى وتمثل مفاجأة غير متوقعة.
تمثل مفاجأة غير متوقعة لأن استطلاعات الرأي السابقة كلها كانت تتحدث عن نوع من التساوي بين الاثنين في الحظوظ الانتخابية، وكان أحدهما إذا تقدم على الثاني فإنه كان يتقدم بنسبة بسيطة، لا بنسبة كبيرة كما يتضح من استطلاع الشبكة الشهيرة. وليس مفهوماً لماذا تفوق ترامب على بايدن بهذه النسبة العالية، ولا أحد يستطيع طبعاً أن يقطع بما إذا كان هذا التفوق سيدوم إلى يوم الاقتراع، أم أن مفاجآت لصالح بايدن يمكن أن تطرأ على طول الطريق فتقلب الموازين. ليس معروفاً لأن أي شيء بسيط يمكن أن يطرأ فتتغير من بعده الحظوظ في الفوز بالمقعد الرئاسي.
ولا تزال النقطة الأهم التي تؤخذ على بايدن هي سنه المتقدمة، كما أن النقطة التي تؤخذ على ترامب هي إدانته في قضية جنائية.
أما بالنسبة لسن الرئيس بايدن المتقدمة، فلا يُعرف لماذا الإلحاح عليها إلى هذا الحد؟، إن بايدن في الحادية والثمانين من العمر، ويوصف دائماً بأنه أكبر الرؤساء الأمريكيين سناً، وإذا كان هذا صحيحاً فالرئيس السابق ترامب لا يصغره بالكثير وإنما بثلاث سنوات فقط، وعندما يكون فارق السن بينهما في هذه الحدود الضيقة، فلا يمكن القول إن السن المتقدمة هي المشكلة، ولكن ما يغذي الإحساس بكبر سن الرئيس بايدن أنه يقع في هفوات أثناء الحديث والحركة، وأنها كلها تشير إلى أنه يقع فيها بتأثير من التقدم في السن.
غير أن القضية المحيرة فعلاً هي تقدم ترامب في الكثير من استطلاعات الرأي رغم إدانته في قضية جنائية لا سياسية، ولا تعرف كيف يمكن للذين يستطلع الإعلام رأيهم أن يقفزوا فوق هذه الإدانة ويرون فيه مشروع رئيس مقبل.
انحياز نسبة لا بأس بها من الناخبين الأمريكيين إلى ترامب في استطلاعات الرأي مسألة غير مفهومة، وهي في حاجة إلى دراسة سيكولوجية للناخب المنحاز لمرشح رئاسي مُدان جنائياً.. والأمر في حاجة أيضاً إلى دراسة لتحولات الناخب عموماً في الولايات المتحدة.. لقد قيل كلام كثير في السابق عن مدى التزام ترامب في سداد ضرائبه للدولة، ومما قيل كان من الواضح أنه يتحلل من هذا الالتزام في مرات كثيرة، ومع ذلك كانت استطلاعات الرأي تُظهر تقدمه بين الناخبين!
كيف يمكن فهم هذا إذا كنا نعرف عن الولايات المتحدة، أن التهرب من الضريبة فيها يمس سُمعة المتهرب وينال منها بين الأمريكيين؟، فليس سراً أن الرجل الذي يتهرب من دفع سنت واحد من ضرائبه في بلاد العم سام يظل أبعد الناس عن مواقع المسؤولية العامة؟، فكيف يكون ترامب مداناً في قضية جنائية، ثم يتقدم في أي استطلاع رأي بين مواطنيه وناخبيه؟.
الحقيقة أن ظاهرة ترامب تصيب أي متابع بالحيرة الشديدة، لأنها تكسر ما عاش الأمريكيون يتوافقون حوله من معايير ومقاييس عامة، وتبدو وكأنها تؤخر هذه المعايير والمقاييس العامة لصالح معايير أخرى.
ومن هنا إلى الخامس من نوفمبر سيكون علينا أن نحاول الفهم أكثر، لأن الفهم هو الخطوة الأولى للحكم الصحيح على الأشياء، ولأن ظاهرة الرئيس السابق تبدو مستعصية على الفهم في كل مرة يجد المتابع نفسه أمامها.