منظر المواطن التركي الذي رفع السلاح الأبيض في أحد المقاهي على سياح عرب، وهو يصيح مهدداً بالاعتداء عليهم شهده العالم، وبعدها شهد العالم أيضاً الكثير من الاشتباكات بين مجاميع تركية وضيوف من غير الأتراك، في نفس الوقت نشاهد أيضاً انزياحاً حاداً باتجاه التعصب ضد الآخر في عدد من الدول الأوروبية، كما أنها ترفع الأسوار ضد المهاجرين، وقد ظهر ذلك في المعركة الانتخابية في بريطانيا، حيث حصل الحزب المتشدد ضد (الآخرين) على أصوات لم يكن يتوقعها. تلك المواقف التي خرجت من بلاد تصدير (التنوير) إلى العالم. أما الانتخابات الأمريكية فإحدى قواعد الاشتباك فيها هو الموقف من القادمين الجدد.
كل تلك الكراهية مصدرها (الاقتصاد) فضعف الاقتصاد، ودخول شرائح أكبر من المجتمع في حيز الفقر أو الفقر النسبي، يدفع البعض من السياسيين أو جماعات متضررة، لاستثمار ذلك الوضع ولوم الجماعات الجديدة في المجتمع على وضع، ليس لهم علاقة به.
الظاهرة برمتها تؤكد الفكرة القائلة إن الاقتصاد هو الذي يقود السياسة، ومتى ما قادت السياسة الاقتصاد، اصطدم المجتمع بعقبات لا يمكن حلها، وجه السياسيون المسؤولية عنها إلى الآخر!
من المعروف أن بلاداً مختلفة قامت أصلاً على المهاجرين، أحد الأمثلة هي الولايات المتحدة، فهي مجتمع مهاجرين.
الاقتصاد في عدد من دول أوروبا تسهم فيه اليد العاملة المهاجرة بنسبة وازنة، يكفي الإشارة إلى أن عمدة مدينة لندن من أصول باكستانية، ورئيس الوزراء (المغادر) من أصول هندية، كما كان الكثير من الوزراء من أصول مختلفة غير سكسونية!
الفشل الاقتصادي يعظم من تعزيز الهوية المتوحشة، أياً كانت وفي كل الثقافات، فيوضع اللوم بسبب فشل السياسات على القادمين الجدد.
المفارقة ظاهرة في فضائنا العربي كما في لبنان مثلاً، ففي الوقت الذي يقول الحزب المهيمن على مقدرات لبنان إنه (سوف يحرر فلسطين) نرى الكثير من الكراهية، بسب الفشل الاقتصادي توضع إما على سكان المخيمات الفلسطينيين، أو المهاجرين قسراً من بلادهم سوريا، مع العلم أن السوريين في لبنان تقوم على عاتقهم بشكل أكبر صناعة البناء والتشييد! إلا أن الفشل الاقتصادي يجعل كثيرين يلقون اللوم على المهاجرين!
الأرقام لا تكذب، فنسبة المبيعات العقارية التركية للأجانب (حسب أرقام 2018 المتوفرة) كانت عشرة مليارات دولار، وهذا القطاع يُشغل عشرات الآلاف من الأتراك.
الاقتصاد الألماني هو رابع اقتصاد في العالم، يستثمر فيه الأجانب (208 الأرقام المتوفرة) سبعمائة مليار يورو، كما أن العمالة غير الألمانية مليون وستمائة ألف، بل تذهب بعض الدراسات إلى القول إن نقص العمالة يهدد الاقتصاد الألماني، فهي في حاجة إلى يد عاملة من الخارج.
القطاع الزراعي البريطاني أصيب بنكسة منذ خروج بريطانيا من السوق الأوروبية المشتركة 2020، ومن المأمول أن تبدأ حكومة العمال الجديدة التفاوض من جديد للوصول إلى نوع ما من التعاون مع دول السوق، إنقاذاً للاقتصاد البريطاني من الركود، ومن ثم استقبال يد عاملة من الخارج.
من المؤكد أن حرية حركة رأس المال يتوجب أن تتبعها حركة العمالة، فلا يستطيع السياسي في تلك الدول التي تشهد تصاعد الكراهية ضد الأجانب، أن يدعو رأس المال الأجنبي، من دون أن تتبع العمالة، فالاقتصاد العالمي لم يكن في وقت مضى معتمداً على بعضه ومتسانداً بين رأس المال والعمالة، كما هو اليوم.
فشل الاقتصاد يقود إلى سلسلة من الفشل، على رأسها زيادة جرعة الكراهية، وهي بحد ذاتها معطلة للاقتصاد، ولكنها تشبع شهية السياسيين، والذين سرعان ما سوف يكتشفون، أن تجاهل التنمية، وإبدالها بالأدلجة، سرعان ما يولد معضلات اجتماعية تعصف بالاستقرار.