عاشت فرنسا نهاية الأسبوع الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية المبكرة، وقد كانت هذه الانتخابات استثنائية بكل المقاييس، فهي تكاد تكون غير مسبوقة لجهة نسبة المشاركة التي بلغت 67.50%، وهي نسبة لم تحققها الانتخابات في فرنسا منذ 1981.

وهذه الانتخابات غير مسبوقة من حيث نتائجها التي غيرت في العمق المشهد السياسي، وأوضحت بما لا يدع مجالاً للشك أن القوانين المنظمة للجمهورية الخامسة التي أرسى قواعدها الزعيم التاريخي شارل ديغول عاجزة عن تأطير المشهد السياسي الجديد، وأن مؤسسات الدولة تستدعي عملية إصلاح دستوري شامل.

ولا يخفى أن الجمهورية الخامسة الفرنسية، التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية، قامت على نظام التداول بين الحزبين، وهو ما مكن فرنسا في كل مرة من غالبية برلمانية قادرة على ممارسة الحُكم، وقد شهدت فرنسا منذ ذلك التاريخ سلاسة في التداول على السلطة بين اليمين واليسار.

ونتيجة لهذا النظام، لم يتمكن اليمين المتطرف القوي في فرنسا من الوصول إلى الحكم أو حتى دخول البرلمان، حيث إن نظام الاقتراع على دورتين ووجود تقاليد راسخة بالتكتل من أجل قطع الطريق من أمامه تحت «لافتة» حماية قيم الجمهورية أسهما في الحيلولة دون اليمين المتطرف والاقتراب من مراكز النفوذ والسلطة.

وقد تواصل هذا الحال حتى ظهور بوادر ضعف الأحزاب التقليدية في اليمين الجمهوري وفي اليسار، وهي وضعية استغلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سنة 2017 في أول عهدة رئاسية له، حيث اختار الحكم في الوسط بعيداً عن اليمين واليسار التقليديين، واختار الحُكم عموماً بعيداً عن الوسائط الحزبية والمجتمعية، وهو ما أدى بالتدريج إلى مزيد من إضعاف الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وإلى ضرب قدرتها على التأطير، ما فتح الباب مشرعاً أمام قوى التطرف من اليمين واليسار.

ونعتقد مع العديد من الملاحظين أن خيار الحكم في الوسط قطع الطريق أمام البدائل الحزبية التقليدية، التي تتحرك في تناغم تام مع قوانين الجمهورية الخامسة الفرنسية، ومهد بالتالي السبيل إلى السلطة أمام التطرف من اليمين واليسار، وجعلها من البدائل المحتملة، ولا يبدو أن الرئيس الفرنسي قدر تداعيات ذلك على استقرار النظام السياسي وعلى وحدة المجتمع والدولة.

وتكمن المخاطرة التي أقدم عليها الرئيس ماكرون، أولاً، في خياره الاستراتيجي اليمين المتطرف خصماً سياسياً دائماً، باعتباره خياراً منبوذاً من المجتمع، وثانياً: في تعويله المطلق على ديمومة رفض كل الأطراف السياسية والحزبية والمجتمعية لسيناريو وصول هذا اليمين المتطرف إلى السلطة،

وثالثاً: كانت من جهة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مخاطرة كبرى وغير محسوبة العواقب؛ لأنها لم تكن مصحوبة بسياسات اقتصادية واجتماعية وسياسية قادرة على أن ترتقي بأوضاع المواطن الفرنسي، الذي تعود من دولته أن تكون راعية لمصالحه، وسخية في عطائها، وفي سياسة إعادة توزيع الثروات.

وهو ما يفسر الحراك المجتمعي الغاضب الذي عرفته نهاية العهدة الرئاسية الأولى للرئيس إيمانويل ماكرون، وأما السبب الرابع الذي أدى إلى الوضع المتأزم الذي تعيشه فرنسا، فهو إصرار الرئيس ماكرون على الاستفراد بالقرار وتهميش مؤسسات الدولة، وخصوصاً البرلمان.

وقد جاءت نتائج الانتخابات لتقوض أركان هذه السياسة، وتلحق بالرئيس الفرنسي هزيمة قاسية قد تُخرجه بالكامل من دائرة النفوذ والقرار رغم الصلاحيات الكبرى التي يخولها له الدستور الفرنسي، فهي انتخابات غيرت مركز القرار في السلطة من مقر الرئاسة في قصر الإليزيه إلى الجمعية العمومية والبرلمان.

وهو ما يفتح باباً لا رجعة فيه أمام نظام برلماني فعلي، قد لا يستقيم حاله هو الآخر في ضوء وجود أقطاب سياسية وحزبية ثلاثة، وقد يتطلب ذلك إصلاحاً دستورياً شاملاً، يمكن من تحقيق غالبية قادرة على الحُكم، ويعيد توزيع السلطات بين الرئيس والبرلمان. إن هذه الانتخابات ردت الاعتبار فيما يبدو لمكانة الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، ما يعني أن الديمقراطيات ما زالت غير قادرة على تجاوز المنظومة الحزبية والوسائط المجتمعية.

وجاءت النتائج بالتالي «ثأرية» ضد سياسة الرئيس الفرنسي ماكرون القائمة على إلغاء دور الأحزاب، وهي انتخابات أعلنت، بحسب عديد الملاحظين، نهاية «الماكرونية»، نسبة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، رغم أن هذا الأخير ما زال يكابر ويرفض الاعتراف بالهزيمة في هذه الانتخابات.

إن الطابع الاستثنائي لهذه الانتخابات يفرض على الجميع إيجاد معادلة سياسية جديدة، تأخذ في الاعتبار نتائج عملية التصويت التي أعطت اليسار الفرنسي المرتبة الأولى، واليمين المتطرف مكانة أكبر من البرلمان السابق، ولا مناص إذاً من الانسجام مع إرادة الناخب الفرنسي؛ لأنه بخلاف ذلك يكون استمرار عهدة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون محل شك.

إن فرنسا تقف في مفترق طرق، وإن الرئيس الفرنسي والطبقة السياسية عموماً في وضع لا يحسدون عليه، فإما أن توفر إرادة سياسية لصياغة عقد اجتماعي وسياسي جديد يأخذ في الاعتبار المتغيرات الجديدة، وإما أنه المصير الغامض الذي لا أحد بمقدوره التكهن بمآلاته.