تعلمنا من التاريخ البشري الطويل أنه رغم أن الحق هو الأدوم والأصلب والأجدر بالبقاء، إلا أن هذه الأحقية وهذه الجدارة تفقد زخمها بمرور الأيام إنْ شكّلت الأُطُر التي تحكمها والقوالب التي تعيش بها الوقائع.
لقوة تُغيّر كل شيء تقريباً، فَتُزَيّف الصواب وتُصَوِّب الزيف، وتُدين البريء وتُبرئ المُدان، ولا أدل على ذلك من مقولة ونستون تشرشل عندما صَرَّح بثقة بعد فظائع الحلفاء ضد المدنيين الألمان في الحرب العالمية الثانية: «سيكون التاريخ طيباً معي، لأنني سأكتبه بنفسي»!
ربما لاحظ البعض معي أنّه بين الفينة والأخرى تخرج لنا اكتشافات «على استحياء» تُناقِض المتعارف عليه في الأمور الجغرافية أو التاريخية، ورغم قوة ما يبدو من دلائل إلا أنها تتوارى شيئاً فشيئاً بمرور الوقت، لكي تعود القناعات القديمة «المتفق عليها» لتتصدّر المشهد من جديد، وهي قناعات الكثير منها لا يعدو أن يكون مجرد «افتراضات» منحازة لتكريس«فوقية» عِرْق معيّن، ولا أُذيع سِرَّاً عندما أذكر أنّ المقصود هو العِرْق الأبيض، والذي يُفتَرَض أن لا يُشار إلى خصلة حميدة إلا وهو الأحق بها، ولا أمر سيئ إلا وبقية الأعراق من تختص بها، وهو من يسعى لتخليصها منها!
لا يمكن لمناهج الدراسة أن تذكر أحداً «اكتشف» العالم الجديد سوى كريستوفر كولومبوس، وأمريغو فيزبوتشي ورفاقهما من لصوص التاريخ، ولا تعرف لماذا نتحدّث عن اكتشاف والقارة الشمالية والجنوبية تمور موراً بالشعوب والقبائل والأعراق، وبها حضارات أكثر رقياً وتمدناً من أوروبا البائسة والتي لم تحمل للعالم خارجها إلا المدافع وفوهات البنادق وقيود العبودية وبطانيات الجدري.
ولماذا لا يُنسَب لأسلاف أهلها شرف الاكتشاف هذا؟، ولماذا سُلِبَ عنهم حق الانتماء والتملّك لأراضيهم وأراضي أجدادهم، إنها الخديعة الكبيرة باستخدام كلمة «اكتشاف» لكي يتم سرقة ثلاث قارات كاملة من أهلها!
ولأنهم خبراء في سرقة أراضي الغير، كان من المهم أن يستخدموا وسيلة جديدة سوى قضية الاكتشاف للأراضي التي تعارفت عليها الدنيا وأهلها أنها تعود لقومية معيّنة لكي يسرقوها هي الأخرى، وهنا من جديد لن أقول شيئاً غير معروف بأن الحديث عن فلسطين واستماتة الغرب في اختلاق «تاريخ» لليهود بها والحديث عن مملكة كبرى لم يسمع بها أحد ولم تَسْنُد هشاشة مبناها أية حقيقة على اليابسة.
وفي هذا يقول المفكر الفرنسي بيير روسي في كتابه (التاريخ الحقيقي للعرب): «إننا لم نعثر حتّى اليوم على أثر ولا على أقل إشارة تجبرنا على التحدث عن عاصمة عبرية أو عن ملوك عبريين، ولم يُسَجَّل في أي مكانٍ ما اسم داود أو سليمان، ولم تُسَجَّل في أي مكان الفتوحات الكبرى التي يمجدها العهد القديم، إنَّ الديوان الفرعوني صامت في هذا الصدد، وهو الذي يحلو له أن يقصَّ أدنى الأحداث السياسية والعسكرية للمنطقة»!
في جانب العلوم، نجد العشرات من الفيديوهات لعلماء وخبراء «غربيين» يؤكدون أسبقية العرب والمسلمين في كثير من الاكتشافات التي ينسبها الغرب لنفسه ولأبنائه، وهي اكتشافات يريدون من الدنيا أن تُصَدِّق أنها خرجت فجأة وكأنها «عريون» أو «فقع» ظهر بُعيد موسم أمطار، وعندما أحرجهم هذا التساؤل لجأ الغرب لشماعة طالما اتكأ عليها ألا وهي الحضارة الإغريقية.
، فاعترف بدور العرب في «نقل» العلوم الإغريقية لأوروبا لكي تكمل بها أوروبا مسار الحضارة، والغريب أنّ الفترة الزمنية لعملية النقل المزعومة استمرت عشرة قرون كاملة!
يقول غوستاف لوبون: «ليس هناك فيلسوف إغريقي لم يكن يلهج بالحديث عن الشرق ويفتخر بأنه تلميذه، ليس هناك واحد منهم لم يولد في الشرق أو يسافر إليه طلباً للتعلم»، ومن أراد التأكد فليقرأ عن الإسكندرية ودورها في «تثقيف» مفكري اليونان سواء في العهد الإغريقي أو العهد البطلمي ودور أوغاريت وبابل وأور وآكاد في نقل أثينا من طور الخرافة والشعوذة إلى طور العلم التجريبي.
إن الغرب يرتدي لباساً أكبر منه بكثير، ويدّعي لنفسه شرفاً وسَبْقاً ودوراً تُكذّبه الأدلة وتُفنّده البراهين ويناقضه المنطق، لكن كل منطق لا يستطيع الوقوف طويلاً أمام شخصٍ مُدَّعٍ يحمل بندقية وتُمجده أقلام مأجورة لا تهدأ ولا تستحي من الكذب لحظة.
ولا يجرؤ خصومه على الاعتراض، فمن يُشكِّك بما قاله للدنيا عن تاريخه وتاريخهم هو مُعادٍ للإنسانية والمدنية وناكر لجميل الغرب، ولا يبعد أن يوصف بما وصف به الملك جورج الثالث خصومه عندما قال ذات مرة: «الخائن هو كل من لا يتفق معي»!