هل هناك تداعيات فعلية لتقدم قوى اليمين القومي الشعبوي في انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت مطلع هذا الشهر؟!

المؤكد أن الإجابة نعم، فهذا التيار الذي يصفه كثيرون بأنه متطرف لم يحصل على الأغلبية المطلقة في البرلمان، ورغم ذلك فإن ما حدث قد يشكل الخطوة الكبرى نحو اتجاه أوروبا، أو معظم دولها، إلى أقصى اليمين.

لكن الصعود الكاسح لليسار في الانتخابات التشريعية الأخيرة في فرنسا وفوز العمال في بريطانيا يقولان بوضوح إن صعود اليمين المتطرف ليس أمراً نهائياً.

معسكر يمين ويسار الوسط المساند للوحدة الأوروبية واستمرارها حصل على 403 مقاعد، من إجمالي المقاعد وعددها 720 بنسبة تصل إلى 56 %، وبالتالي فإن قوى اليمين المتشدد أو المتطرف لا تزال في المرتبة الثانية.

في مقال سابق رصدنا هنا الأرقام والبيانات. واليوم نحاول أن نلقي نظرة تحليلية على هذه النتائج حتى نفهم ما الذي يمكن أن يؤثر علينا نحن العرب.

أول المؤشرات أن استمرار تصدر أحزاب يمين ويسار الوسط مضافاً إليهم مقاعد حزب الخضر 72 مقعداً، يعني أن الوحدة الأوروبية مستمرة، وأن خطر تفكك أوروبا وعودة الدولة الوطنية مؤجل حتى إشعار آخر.

لكن المؤكد أيضاً أن صعود قوى وأحزاب اليمين المتطرف سوف تمثل عامل ضغط على قوى الوسط واليسار، خصوصاً فيما يتعلق بالمهاجرين القادمين من العالم الثالث وبالأخص من أفريقيا. وقد رأينا العديد من الأحزاب السياسية التقليدية المنصفة يمين ويسار ووسط، ولم يعرف عنها معاداتها للأجانب والمهاجرين، تكشف عن سياسات وأفكار تقلص دخول المهاجرين، إرضاء لصعود قوى اليمين المتطرف، وبالتالي فإن الفترة المقبلة لن تكون جيدة للمهاجرين الجدد الذين يفكرون في الهجرة لأوروبا.

ويقلل من هذا الخطر فوز اليسار في فرنسا الذي يدافع عن المهاجرين والأجانب بصورة منهجية، ضد حملات حزب التجمع الوطني المعادي للأجانب.

المؤشر المهم الثاني هو أن أهم زعيمين في القارة الأوروبية صارا يعانيان من ضعف سياسي واضح بعد نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي. الأول هو الزعيم والمستشار الألماني أولاف شولتز الذي جاء حزبه ثالثاً بعد الحزب المسيحي الديمقراطي 30 % والحزب المتطرف «البديل من أجل ألمانيا» 15.9 %، وهذه النتيجة شديدة الخطر لشولتز وتيار الوسط عموماً، لأنها تكشف أن صعود التيار القومي مستمر وبصورة ملحوظة على حساب أحزاب الوسط خصوصاً اليسار أو الديمقراطيين الاشتراكيين.

الضربة الكبرى جاءت أيضاً للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي حصل حزبه على أقل من نصف المقاعد التي حصل عليها حزب «الجبهة الوطنية» المصنف متطرفاً.

وهذا الأمر دفع ماكرون إلى الدعوة إلى انتخابات تشريعية عامة مبكرة رهاناً على تكتل كل القوى السياسية الفرنسية من سائر الاتجاهات ضد صعود اليمين المتطرف، كما حدث حينما واجه الرئيس الأسبق جاك شيراك زعيم حزب الجبهة الوطنية وقتها جان لوبان، والد زعيمة الحزب الحالية جان ماري لوبان التي قدمت جو بارديلا رئيساً للحزب، وقتها احتشدت فرنسا بأكملها لنصرة شيراك وصورة فرنسا المنفتحة ضد أفكار لوبان المتطرفة المعادية للهجرة والوحدة الأوروبية، والذي حدث كما صرنا نعرف أن اليمين المتطرف تقدم في المرحلة الأولى، لكن اليسار المتشدد هو من حسم الجولة الثانية وجاء حزب ماكرون ثانياً. والنتيجة العامة أن فرنسا تتأرجح بين أقصى اليمين وأقصى اليسار. وإذا أخذنا فوز العمال الكاسح في انتخابات بريطانيا وإزاحتهم للمحافظين فالمعنى العام هو صعوبة القول إن اليمين المتطرف يكتسح.

أحد المؤشرات لهذه النتيجة أيضاً أن استمرار هيمنة الاتجاه المؤيد للوحدة الأوروبية سوف يعني استمرار دعم أوكرانيا في صراعها المحتدم ضد روسيا، وبالتالي سوف تضمن كييف المزيد من الدعم المالي والعسكري من الدول الأوروبية خصوصاً ألمانيا وفرنسا. لكن النبرة المعادية لأوكرانيا سوف يسمع صداها كثيراً في جنبات البرلمان الأوروبي، خصوصاً من الدول التي صعد فيها هذا التيار المتطرف أو حافظ على وجوده الكبير مثل المجر والنمسا وهولندا.

مؤشر آخر لصعود قوى اليمين هو أن العلاقات بين أوروبا وتركيا سوف تزداد تعقيداً، فالأحزاب اليمينية المتطرفة ترفض من الأساس فكرة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، فإذا كانت قوى الوسط ترفض انضمام تركيا منذ عقود بحجة صعوبة دمج بلد مسلم كبير في «فضاء مسيحي» حسب تعبير الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان، فالمؤكد أن صعود اليمين سوف يزيد المشكلة تعقيداً، بل وربما يدفع تركيا إلى الاتجاه شرقاً سواء ناحية العرب أو روسيا والصين.

هذه قراءة أولية والمؤكد أن تداعيات نتائج الانتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبي وانتخابات فرنسا وبريطانيا تقول بوضوح إن عدم اليقين هو سيد الموقف، ليس فقط في أوروبا، ولكن ربما في معظم دول العالم.