«شخصيات تحت المجهر»

وليم داف.. أسهم بخبرته في نهضة دبي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في التاريخ الحديث لدول الخليج العربية ثمة شخصيات أجنبية غير عربية أسهمت في مشوار التنمية والنهضة في المنطقة، مستثمرة في ذلك علومها وخبراتها المكتسبة ومواهبها المتعددة.

هذه الشخصيات عملت في بلاد العرب سنوات طويلة بإخلاص وتفانٍ، وبعضها ظلت مقيمة بها إلى أن حانت منيته فدفن في ترابها، والبعض الآخر أدى الأمانة وعاد إلى وطنه الأم مكرماً وتاركاً خلفه ذكرى طيبة وسيرة مهمة من البذل والعمل بصدق.

وإذا كان البريطاني تشارلز بلغريف (1894 ــ 1969) هو أحد هؤلاء في البحرين، والرجل الذي اختارته الحكومة منذ عام 1926 كي يعمل مستشاراً للشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة، ويترجم رؤيته الإصلاحية، ثم ليواصل عمله في عهد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، ويحقق طموحاته التنموية حتى عام 1957، فإن المصرفي والمستعرب البريطاني وليام داف أسهم في تعزيز الجهود المترجمة والمجسدة لرؤى وأفكار المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، بشأن مرتكزات ومسيرة تنمية دبي وازدهارها، منذ ستينيات القرن العشرين.

لقد أدى داف، تحت قيادة وتوجيهات المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، مجموعة مهام حيوية في مسيرة دبي التنموية في سنواتها المبكرة، وأدى أعماله وواجباته بحماس وتفانٍ.

إذ تصرف منذ اليوم الأول لعمله في دبي وفق خطط مدروسة وبصيرة نافذة، فكان النجاح حليفة، خصوصاً وأنه قدم وهو يحمل خبرة طويلة وثراء معرفياً راكمه من خلال دراسته في واحدة من أرقى الجامعات البريطانية، ثم من خلال عمله في أقطار مختلفة ووظائف متنوعة. لذا لم يكن غريباً أن يشيد به القنصل العام البريطاني في دبي في ذلك الوقت «ادوارد هوبارت»، لإسهامه في مشوار التطوير في دبي، وفي إرساء معايير جديدة وثابتة للشراكة الإماراتية ــ البريطانية.

ولد وليام روبرت داف بسنغافورة في 13 مايو 1922 ابناً لوالديه الأسكتلنديين روبرت ماك داف وإليانور ماك داف اللذين كانا يديران شركة هناك، علماً بأن والده قاسى عذابات السجن على أيدي اليابانيين في معتقل شانغي (سجن بريطاني استخدمه اليابانيون كمعسكر اعتقال لأسرى الحرب إبان الحرب العالمية الثانية) وذلك من عام 1942 وحتى انتهاء الحرب في عام 1945.

تلقى داف تعليمه أولاً في كلية تشلتنهام الداخلية للبنين بجنوب غرب إنجلترا، أما تعليمه الجامعي والعالي فقد أنهاه في كلية هيرتفورد بجامعة أكسفورد العريقة، التي منحته درجة الماجستير في الدراسات الشرقية.

بعد ذلك تم تجنيده في الجيش البريطاني، فخدم في كتيبة كينسينغتون التابعة للأميرة لويز الأولى، وقاتل في إيطاليا والسودان وفلسطين. وفي الأخيرة انجذب للثقافة العربية، وتعرف عليها عن كثب وعشقها، وتعلم القراءة والكتابة بالعربية الفصحى بمدينة القدس، ما جعله أحد الشخصيات البريطانية المستعربة.

وهناك صادف أن حضر حفلاً للسفارة البريطانية في عام 1946 فالتقى بمواطنة بولندية تدعى إيرينيكا تراتشيموفيتش، فأحبها وتزوجها في العام نفسه. تقاعد داف من الجيش البريطاني وهو برتبة كابتن، وعاد إلى حياته المدنية مبتدئاً بالعودة إلى مقاعد الدراسة بجامعة أكسفورد، لتعلم اللغة العربية وآدابها، ومنها انتقل إلى لبنان لمواصلة دراسته في «مركز الشرق الأوسط للدراسات العربية» المعروف باسم «معهد شملان».

بدأ رحلته الوظيفية بالالتحاق بالبنك الإمبراطوري الإيراني الذي تحول لاحقاً إلى «البنك البريطاني للشرق الأوسط» (مصرف HSBC حالياً)، فعمل بحكم وظيفته المصرفية هذه في بلدان مختلفة كان للبنك فيها فروع.

إذ خدم على مدى عشر سنوات في كل من العراق والأردن وسوريا ولبنان والسودان، ثم في الكويت في الخمسينيات زمن حاكمها الحادي عشر الشيخ عبدالله السالم الصباح، حيث شغل لبعض الوقت منصب المستشار المالي للعائلة الكويتية الحاكمة بتكليف من الشيخ جابر الأحمد الصباح (أصبح فيما بعد أمير الكويت الثالث عشر)، الذي كان وقتذاك رئيساً لدائرة المال والأملاك العامة ورئيساً لمجلس النقد الكويتي.

وصادف إبان تلك الفترة، وتحديداً في عام 1959، أن زار الكويت المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، فتعرف خلالها على داف وعمله ومواهبه، وهو ما جعل المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، يدعوه إلى دبي في العام التالي، أي في عام 1960، لكي يعمل في خدمته كمستشار مالي. وهكذا حل داف في دبي في 2 أكتوبر 1960. وراح داف يقدم الخطط حول ثروات البلاد واستثمارها في برامج تنموية هادفة.

لقد وثق المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، في إمكانيات ومواهب ومعارف الرجل، والذي حرص على ترجمة أفكار المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، لجهة تأسيس الإدارات الحكومية بمواصفات حديثة، ومنها دائرة المالية ودائرة الجمارك ودائرة الكهرباء، وإنشاء مرافق البنية التحتية كالموانئ والمطارات والطرق المعبدة والفنادق والاتصالات بهدف المساعدة على جذب الاستثمارات التجارية والشركات العالمية في حقول النفط وخلافه.

ومن هنا قيل إن داف من الرجال الذي خدموا دبي لإسهامه ببواكير نهضتها التنموية، وعمله بتوجيهات المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، لتحقيق المعجزات التنموية.

يشهد على ذلك ما ميزه عن بقية نظرائه وهو مساهمته في تأمين التمويل اللازم للمشاريع، ومساهمته في تأسيس أول روضة للأطفال، وأول مقبرة مسيحية، وأول مدرسة تطبق منهاج اللغة الإنجليزية.

ويشهد على ذلك أيضاً إسهامه في فترة لاحقة من عمله في دبي، بالمشاركة في العديد من الأفكار والخطط التنموية، التي أسهم فيها حيث إنها أسست لتميز مشوار نهضة دبي، وذلك مثل: إنشاء ميناء راشد عام 1972، وإنشاء ميناء جبل علي عام 1979، وإنشاء المنطقة الحرة لجبل علي عام 1985. هذا ناهيك عن دعوة الشركات الأجنبية للاستثمار في دبي، وتسهيل عملية الاستيراد عبر خور دبي، وتوفير سوق للتجار على طول الخور (سوق ديرة الحالي).

وعمل داف بدور المستشار الفخري للمغفور له الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم، طيب الله ثراه، فيما ظلت زوجته ايرينيكا تدير لسنوات «مدرسة دبي للتخاطب باللغة الإنجليزية» التي أنشأها زوجها، ولم تتوقف إلا قبل فترة قصيرة من وفاته أثناء نومه بمنزلهما على شاطئ الجميرا في 14 فبراير 2014.

وهكذا انطوت صفحة رجل عشق دبي وأخلص لها وأسهم في مشوار نهضتها، وحمل قدراً كبيراً من الحب والاحترام للعرب وحضارتهم وثقافتهم.

وبعد وفاته تم دفنه بمقبرة دبي المسيحية التي ساعد في إنشائها، تاركاً خلفه زوجته الوفية ايرينيكا وابنتيه ديانا وشيلا وأحفاده الأربعة: مايكل وأندرو ونيقولاس وكارولين. قالت ابنته شيلا في حديث لصحيفة «البيان» (2014/2/14) ما مفاده أن والدها استمتع بالسنوات السبع التي عمل خلالها في الكويت ما بين عامي 1953 ــ 1960، لكنه وجد أن العمل في دبي مغامرة تستحق الإقدام عليها، خصوصاً وأنه كان قد زارها مع زوجته ايرينيكا في إحدى العطلات سنة 1958.

ولهذا فإنه رحب بفكرة الانتقال إلى دبي حينما عرضت عليه، وازدادت قناعته بصواب قراره في ترك وظيفته المعتبرة بالكويت، حينما تعرف عن كثب إلى المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، ورؤاه وأحلامه.

إذ انبهر بشخصيته وأخلاقه النبيلة وطموحاته الكبيرة، ونشأت بينهما علاقة ثقة متبادلة، بل «كانت هناك لغة من التفاهم حتى من دون حاجة للحديث، فكانت نظرة من المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، في جلسة بمكتبه الذي هو مقر جمارك دبي، كفيلة بأن يفهم والدي ما يريده المغفور له الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، أو ما يجب على والدي فعله».

وأخبرتنا شيلا أيضاً أن أول عمل قام به والدها في دبي هو استثمار علاقته القوية بالبنك البريطاني للشرق الأوسط في الكويت، الذي عمل فيه لمدة خمس سنوات، من أجل تأمين تمويل بقيمة 400 ألف جنيه إسترليني لصالح مشروع توسعة وتعميق خور دبي، وهو مشروع كان المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، قد بدأ في التفكير فيه ما بين عامي 1955 و1956، بهدف تحويل الخور إلى ملاذ دائم للشحن الساحلي، بل أنه قام بتوظيف شركة «هالكروز وشركاه» التي كانت تعمل آنذاك في الكويت من أجل إعداد الدراسات اللازمة، ثم استدعى من الكويت في عام 1956 المهندسة البريطانية «نيفيل آلان» للقيام بمسح أولي للمشروع.

كما تحدثت شيلا في حديثها إلى «البيان» عن بعض من صفات والدها وخصاله فوصفته بالأب والزوج الرحيم والمتواضع والعادل طيب الخلق، مضيفة: «كان يملك شخصية عظيمة وكان الجميع يشهد له بالأمانة والنزاهة والخلق الكريم»، خصوصاً وأنه بذل جهوداً كبيرة لصالح الجالية البريطانية بدبي على مدى نحو 54 عاماً.

أما ابنته الأخرى ديانا فقد تذكرت ما كان يردده والدها دوماً، وهو أن الشعور الفريد لجهة طبيعة الحياة في دبي وتميزها، يعود تاريخياً إلى عائلة آل مكتوم وحكمهم العادل لدبي منذ عام 1833، وأن المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، جسد نموذجاً فريداً للحاكم العادل المتواضع، الذي يحظى بحب وتقدير الجميع.

ومن الشهادات التي قيلت في حق ويليام داف، شهادة الشاعر والإعلامي الإماراتي ظاعن شاهين، الذي تذكر لقاءه الأول مع داف حينما كان طالباً في الثامنة عشرة من عمره تقريباً، بينما كان داف يشغل منصب المدير المالي لحكومة دبي، وكان من ضمن صلاحياته كل ما يتعلق بالبعثات الدراسية ومصاريفها.

يقول شاهين إنه ذهب للقاء داف مع صديق له كان يرغب بالدراسة في الولايات المتحدة، فاستقبلهما داف بالترحاب واستمع إليهما واطلع على رغبة الطالب الطامح لاستكمال دراسته في الخارج، وعرفه على آلية الابتعاث وشروطه، ثم تولى عملية تنظيم ابتعاثه دون تعقيدات.

وأكمل شاهين شهادته قائلاً: «بالنسبة لشخصية وليام داف، فقد كان يسير بخطى محسوبة في ما يتعلق بالتنظيم المالي، وهو كان أمراً مهماً بالنسبة لإمارة دبي فيما يتعلق بتأمين القروض والتمويلات المالية لبناء الكثير من المشاريع، الأمر كان يتطلب إدارة مالية حكيمة، وهو ما فعله داف وهو تأسيس إدارة مالية جعلت خطى دبي في مشاريع النمو واضحة».

Email