أُعرّف النقد بأنه حوار مع المنقود، سواء أكان النقد مخالفة أم موافقة. ونحن في عالم الكتابة غالباً من نقيم حواراً مع آخر نختلف معه بما سطر قلمه، والاختلاف على أنواع.

فهناك الاختلاف الذي يصل حد التناقض، وهناك الاختلاف الذي يصل حد التضاد، وأياً كان الاختلاف فإن اللباقة في النقد تدل على رفعة وسمو وآداب الناقد، لأن اللباقة بالتعريف كما تقول العرب حسن التصرف واللطف والكياسة، وهذا يعني أن الحوار النقدي اللبق مع المختلف نقيض الشجار والسب.

النقد الأدبي والنقد الفلسفي والنقد الفكري والنقد المعرفي والنقد العلمي، كل هذه الأشكال من النقد هي في النهاية نقد نصوص مكتوبة، وتعود إلى أصحابها المعبرين عن زوايا رؤيتهم لهذه المسألة أو تلك، أو يكتبون ما ينتمي إلى هذا الصنف من الكتابة أو تلك.

والمعارك الفكرية تشتعل أكثر ما تشتعل في حقول الكتابة الأدبية والتاريخية والسياسية والفلسفية.

ومن الطبيعي أن يكون المشتغلون في هذه الحقول على معرفة وخلق واعتراف بحق الاختلاف مهما كانت طبيعته كما أشرت أعلاه.

إن سبب كتابة هذه المقدمة الطويلة عن اللباقة النقدية مقال وقع بين يدي مصادفة فقرأته ولم أصدق أنه لصاحبه. مقال يقوم فيه الكاتب بنقد كاتبين مختلف معهما فكرياً، وإذا بالكاتب الناقد ينهال عليهما بسلسلة من الشتائم التي لا تليق لا بالكاتب الصادرة عنه ولا المنقودين. وإليك نماذج من الشتائم التي احتواها مقاله:

(الحمق، والدناءة، الخسة، الذل، الأوغاد، السوقي، التافه، المنافق، فاقد العقل والحياء والمروءة، روح مسيلمة الكذاب، خفة في عقولهم، ضعف، رذيلة، دناءة، الكذب، الحمق، السفه، الوغادة، العار، التبعية).

تأمل معي، مقالاً نقدياً من 376 كلمة يحتوي على أكثر من عشرين شتيمة ولا يحتوي على أي جملة مفيدة من الناقد لتدحض آراء من نظر إليهما على إنهما خصمان.

ما الذي زود به الناقد القارئ من شتمه هذا؟، لا شيء على الإطلاق، اللهم إلا كلمات من معجم الشتائم، دون كلام. وحين أقول دون كلام فإني أعود إلى تمييز العرب بين القول والكلام، فكل كلام قول ولكن ليس كل قول كلام. فالكلام ما كان مصاغاً بجمل مفيدة بمعزل عن نوعها إن كانت اسمية أم فعلية، فإذا قلنا: إن الصخرة جسم مادي صلب، فهذا كلام لأنه يفيد بوصفه تعريفاً للصخرة، وإذا قلت إن الصخرة غيرت مكانها، فهذا قول لا ينطوي على حقيقة. لذلك قالت العرب إن الحقيقة تطابق ما في الأعيان مع ما في الأذهان. فالناقد الشتام يصوغ جملاً غير مفيدة، إنها مجرد أقوال وليست كلاماً. النقد كلام، والشتم أقوال.

وهناك نوع آخر من النقد الخالي من اللباقة، وهو منتشر عند نقاد الأدب، وهو النقد الذي يتحول فيه الناقد إلى معلم يتصيد ما في النص الأدبي من هنات لغوية، ويصب جام غضبه على المبدع. وهذا ما كان من نقد طه حسين لإبراهيم ناجي صاحب قصيدة الأطلال، والكل يذكر نقده لديوان ناجي: من وراء الغمام، حيث كتب طه حسين يقول:

(نحن نكذب شاعرنا الطبيب إن زعمنا له أنه نابغة، بل نحن نكذب زعمنا له أنه عظيم الحظ من الامتياز، إنما هو شاعر تألفه النفس، يصبو إليه القلب، يأنس إليه قارئه أحياناً، ويطرب له سامعه، فإذا نظرنا إليه نظرة الناقد المحلل الذي يريد أن يقسم الشعر أنصافاً أو أثلاثاً أو أرباعاً، لم يثبت لنا، أو يصبر على نقد، إنما يدركه الإعياء قبل أن يدركنا، ويفر عنه الجمال الفني قبل أن يفر عنا الصبر على الدرس والنقد والتحليل).

وأخيراً فإن اللباقة النقدية صفة من صفات العقل الأخلاقي، فضلاً عن أنها نوع من الذكاء العاطفي حيث الآخر حاضر بوصفه قيمة معترفاً بها.