صادف الخامس عشر من هذا الشهر ذكرى ميلاد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله.

وقد نشر عدد من وسائل الإعلام تقارير صحافية موسعة بهذه المناسبة، ركز الكثير منها على أن سموه «صاحب مدرسة متفردة في القيادة، وأنه أيضاً صاحب نموذج في التخطيط للمستقبل، وفي بناء النهضة».

وليس قارئ هذه التقارير في حاجة إلى شيء، قدر حاجته إلى أن يتأمل وضع إمارة دبي في ذكرى ميلاد حاكمها، وسوف يكتشف أن ما وصلت إليه الإمارة من تطور ومن نهضة، ومن بناء صلة مع العصر، يظل في مجمله شاهداً حياً على أن ما جاء في التقارير المنشورة، وما ذكرته إنما يصف واقع الحال.

من جانبي أتابع قدرة دبي على جذب الاستثمار الخارجي إليها، ثم قدرتها على أن تكون مقصداً للسائح الباحث طول الوقت عن مقصد يناسبه، ويخاطب مطالبه، فالسائح باحث عن خدمة في العموم، وهو يتجه مباشرة إلى حيث يجد هذه الخدمة أولاً، ثم إلى حيث يجدها على مستوى من الرقي لا يعثر عليه في بقية المقاصد ثانياً.

ولن يكون المتابع في حاجة إلى جهد كبير ليرى أن دبي صارت مقصداً متميزاً على المستويين السياحي والاستثماري معاً، وأن ذلك واضح للعين المجردة من خلال الأرقام المعلنة عن عدد السياح الذين يقصدونها، والذين يفضلونها على مقاصد أخرى منافسة، أما على المستوى الاستثماري فتستطيع أن تلحظ تميزها كمقصد، إذا ما تابعت حركة الاستثمار فيها في كل مجال تقريباً.

وليس الاستثمار العقاري الذي تمتلئ وسائل الإعلام بما يشهده على أرض الإمارة سوى واحد من مجالات استثمارية تشد المستثمر إليها، وتجعله على يقين بأنه سيقع فيها على فرص استثمارية لن تكون متاحة أمامه في سواها.

كل ما ذكرته ربما يكون من تحصيل الحاصل في أغلبه، لا لشيء، إلا لأنه منشور كل صباح، وإلا لأنك إذا كنت ممن لديهم شغف بالمتابعة، فسوف ترى وقائعه أمامك كلما جلست تتابع الجديد في دنيا السياحة، وفي دنيا الاستثمار، ولكن في الأمر زاوية أخرى مهمة للغاية، وهي مهمة لأنها ترسم الصورة مكتملة، ولأنها تقول إن صاحب السمو يحرص منذ أخذت دبي صورتها الحالية، على أن يقدم خبرتها إلى كل الذين يريدون أن يكرروا تجربتها على أرضهم في المنطقة. وكانت ليبيا في زمن العقيد قد رغبت في شيء من هذا لولا أنها لم تستطع، ربما لأن الإرادة في ذلك لم تتوفر وقتها في العاصمة طرابلس بما يكفي.

والغالب أن ما راود حكومة العقيد في طرابلس قد راود حكومات غيرها في المنطقة، ولكن القضية لم تكن في مجرد أن حكومة عربية هنا أو هناك تريد أن تستنسخ تجربة دبي، أو أن تعيد بناء نموذجها على أرضها، وإنما القضية هي في أن تقترن هذه الرغبة لدى أي حكومة بالعزيمة والإرادة معاً، وإلا فإن الموضوع يبقى في نطاق التمنيات لا يفارقه.

الفكرة الأساسية في دبي هي أنها تجمع الرغبة مع الإرادة، وأنها إذا رغبت في إنجاز شيء حشدت له الإرادة التي تنقله من خانة النظرية إلى مربع الفعل، وإذا شئنا أن نتكلم باللغة التي كان فيلسوف اليونان أرسطو يتحدثها في هذا الشأن، فإن الإرادة تنقل الرغبة لدى حكومة دبي من الوجود بالقوة، إلى الوجود بالفعل.

بمنطق أرسطو كانت دبي موجودة كفكرة قبل أن تتوفر لها الإرادة، فلما توفرت لها الإرادة أخذتها من عالم الأفكار إلى أرض الفعل الذي يتجلى أمام الناس، وقد كان أرسطو يشرح فكرته أكثر فيقول: «إن قطعة الخشب مثلاً هي كرسي موجودة بالقوة، ولكنها توجد بالفعل عندما يتوفر صاحب المهنة الحصيف، الذي يحول قطعة الخشب إلى كرسي، تقوم على قوائمها الأربعة».

وإذا أراد أحد أن يفهم تجربة دبي، فليس أمامه إلا أن يضعها في هذا الإطار الأرسطي، وإلا فإنه لن ينفذ إلى سرها، الذي لا بد أن يكون إلى جواره أسرار أخرى تضيء التجربة، وتقدمها للآخرين في كل الأوقات.