شخصيات تحت المجهر

جاسم النصرالله.. أديب كويتي عمل بالبحرين والأحساء والهند

ت + ت - الحجم الطبيعي

كويتيون كثر أقاموا أو درسوا أو نشأوا في البحرين بين أهلهم وأشقائهم البحرينيين لأسباب مختلفة تجارية وسياسية ودراسية، وحينما رجعوا إلى بلدهم الأم برزوا في حقول متنوعة، وصاروا أعلاماً في مجالاتهم.

وإذا كان تاريخ العلاقات البحرينية- الكويتية الراسخة يذكر لنا شخصيات من أمثال رجل الإعلام والسياحة المرحوم جاسم شهاب (1924 ــ 1977)، ورجل الأعمال المعروف فجحان هلال المطيري (1855 ــ 1938)، ونظيره شيخان أحمد الفارسي (1921 ــ 2013)، والفنانين عوض الدوخي (1932 ــ 1979) وعبدالله فضالة (1900 ــ 1967)، وشاعر الخليج الكبير خالد محمد الفرج الدوسري (1895 - 1954) فإن من الأسماء التي لم تذكر كثيراً «جاسم النصرالله»، الذي رحل عن دنيانا في يونيو 2011، بعد أن خلد اسمه أديباً ومثقفاً وقامة من قامات الكويت الأدبية، ومؤسساً وعضواً وناشطاً في رابطة الأدباء الكويتيين لسنوات طويلة.

ولم يكن عدم ذكره كثيراً إلا لأنه كان ممن يتحاشون المقابلات الصحافية والتصوير والظهور الإعلامي، طبقاً لمواطنه الصديق د. عادل العبدالمغني، الذي خصه بمقال منشور بجريدة «الجريدة» الكويتية (2/ 9/ 2020)، تطرق فيه إلى حياته وتنقلاته وأسفاره وخصاله ومآثره وصداقته لوالده محمد العبدالمغني، وعمه عبدالرحمن العبدالمغني في أربعينيات القرن العشرين إبان وجودهم في بومباي.

ولد جاسم بن عيسى بن عبدالعزيز النصرالله بمدينة المحرق البحرينية في سنة 1912 (المعروفة بـ«سنة الطفحة»، كناية عن ارتفاع عائدات محصول بيع اللؤلؤ في تلك الفترة، وبالتالي شعور الناس بالخير والبركة)، ابناً لأبيه الذي انتقل إلى البحرين للعمل لظروف خاصة به، وعائلة النصرالله وصلت إلى الكويت على دفعات، فمنهم من قدم من منطقة حرمة النجدية بإقليم سدير مباشرة، ومنهم من انتقل إلى الكويت، ثم غادرها إلى الزبير، ثم عاد مجدداً إلى الكويت. ويعود نسب آل النصرالله إلى الرباع من الحسني من قبيلة عنزة، وهم ذرية كل من نصرالله عبدالرحمن النصرالله، وعبدالله عبدالرحمن النصرالله، ومحمد عبدالرزاق النصرالله (طبقاً لما ورد في منتدى تاريخ الكويت).

وتقول الأستاذة حصة عوض الحربي في موسوعتها الموسومة «تاريخ العلاقات الكويتية الهندية 1896 ــ 1965» إن أول من وصل من آل النصرالله إلى الكويت هو عبدالعزيز عبدالرحمن النصرالله، الذي اشتغل بتجارة الخيول العربية مع التاجر يوسف الصبيح.

كما أخبرتنا أن عبدالعزيز قبل أن يتوفى أوصى شريكه الصبيح بولديه محمد وأحمد خيراً، فقام الصبيح بإرسالهما حينما كبرا إلى الهند سنة 1850 لإدارة تجارته في الخيول هناك.

استقر محمد وأحمد أبناء عبدالعزيز النصرالله في الهند وعملا في التجارة ونجحا فيها، خصوصاً بعد حصولهما على وكالة إنجليزية لنوع من غترة الشماغ، التي حملت اسم عائلتهما (شماغ النصرالله)، والتي راحا يصدرانها إلى العراق ونجد والإمارات.

وطبقاً للباحثة الحربي فإن شماغ النصرالله ظل يصدر من مكاتب التجار الخليجيين في الهند كمكاتب القناعي والقاضي إلى الكويت وبريدة والأحساء حتى بعد وفاة المؤسسين. وطبقاً لها أيضاً فإن هناك رسالة مؤرخة في 7 يناير 1925 موجهة من الملك عبدالعزيز آل سعود إلى التاجر عبدالرحمن بن عبدالله السبيعي يوصيه فيها بتزويده بعشرة درازن من شماغ النصرالله المشهورة.

وبالعودة إلى جاسم النصرالله (المترجم له) نجد أنه نشأ في البحرين والتحق فيها بمدرستها الأولى الأثيرة «مدرسة الهداية الخليفية» بمدينة المحرق، حيث درس على يد ثلة من مدرسيها الأكفاء، كان من بينهم خالد الفرج، الذي تولى إدارة المدرسة لفترة من الزمن في عقد العشرينيات.

في عام 1934 انتقل صاحبنا وهو في مقتبل العمر إلى شرق المملكة العربية السعودية، وتحديداً إلى الأحساء، حيث كانت مدن الساحل الشرقي من السعودية كالقطيف والهفوف والجبيل تستقطب في تلك الحقبة الكويتيين للعمل أو للدراسة، فدرس في الأحساء برباط الشيخ أبوبكر الملا، وهي مدرسة علمية، كان قد أسسها الفقيه الأديب الشيخ أبوبكر بن محمد بن عمر الحنفي الأحسائي (1784 ــ 1853)، وكان من ضمن مرتاديها مربي الكويت الأشهر الشيخ يوسف بن عيسى القناعي (1879 ــ 1973)، وشاعرها الكبير صقر الشبيب (1894 ــ 1963)، ومما لا شك فيه أن دراسته في الهداية الخليفية ورباط الشيخ أبوبكر، وتتلمذه فيهما على أيدي نخبة متميزة من أساتذة زمنه، كان له دور مهم لجهة تمكنه من قواعد اللغة والأدب والشعر والعلوم الشرعية.

ومن بعد خمس سنوات قضاها في الأحساء أي في عام 1939 عاد إلى البحرين، وحصل على وظيفة إدارية في شركة نفط البحرين (بابكو)، التي كانت وقتذاك إحدى أكثر المؤسسات توظيفاً للشباب المتعلم. لم يطل مكوث الرجل في هذه الشركة طويلاً، ربما لأسباب خاصة بطموحاته الكبيرة في الاكتشاف والارتقاء بذاته وظيفياً وثقافياً، فسافر في عام 1940 إلى الهند، واختار فيها الإقامة والعمل والدراسة بمدينة بومباي التي كانت في تلك الفترة مقصد معظم أبناء الخليج والجزيرة العربية للدراسة والعمل والتجارة والسياحة والعلاج.

في بومباي أو «بمبي» كما كان يطلق عليه الرعيل الخليجي الأول طاب له فيها المقام، فأمضى في رحابها سبع سنوات من عمره، تعلم خلالها اللغة الأوردية وعدداً من اللغات واللهجات الهندية المحلية بحكم الاحتكاك اليومي بالهنود، وأثرى ثقافته العامة بقراءة تاريخ وفلسفات وحضارة الهند، كما أجاد اللغة الإنجليزية من خلال الالتحاق بـ«High Schoo College»، ولكي يدبر قوته في سنوات غربته هناك عمل في النشاط التجاري لدى أحد العرب المقيمين في بومباي من تجار فلسطين، على العكس من أبناء نجد والخليج الآخرين الذين احتضنتهم أعمال ومتاجر مواطنيهم ممن سبقوهم في الذهاب إلى الهند.

ويقول د. عادل العبدالمغني عن هذه الجزئية ما مفاده أن تفضيل النصرالله العمل لدى التاجر الفلسطيني سببه أن الأخير كان صاحب عرض أفضل لجهة الأجر وساعات العمل، وكان يتيح لموظفيه مزاولة أعمال وأنشطة تجارية لحسابهم.

ومن الأعمال الأخرى التي زاولها النصرالله في بومباي، إلى جانب التجارة، تدريس أبناء بعض العائلات الخليجية المقيمة بالهند مثل أبناء عائلات البسام والقاضي والقناعي والعوضي وغيرهم، إذ كانت هذه الأسر مهتمة بتعليم أبنائها لغتهم العربية الأم ومبادئ الدين الإسلامي وتاريخ العرب والمسلمين، وهي معارف كان النصرالله أهلاً لتدريسها بفضل ثقافته الواسعة.

بعد سنواته السبع في الهند عاد صاحبنا إلى الكويت في حدود عام 1947، فعمل أولاً لدى شركة «حمال باشي» المسؤولة آنذاك عن إدارة ميناء الكويت التجاري، ومنها انتقل في عام 1949 للعمل لدى شركة نفط الكويت، التي وظفته بسبب تمكنه من اللغة الانجليزية كتابة وقراءة وحديثاً.

وحينما افتتح الشارع الجديد أهم شوارع العاصمة الكويت قديماً في عام 1950 استأجر في موقع استراتيجي من الشارع المذكور دكاناً مقابل إيجار شهري بمبلغ 30 روبية، وقام بتحويله إلى مدرسة لتعليم الطباعة على الآلة الكاتبة باللغتين العربية والانجليزية، نظراً لزيادة الطلب على من يجيد هذه المهنة إبان حقبة ازدهار الأنشطة التجارية والمصرفية في الكويت في بواكير عملية النهضة والتنمية.

ويقول د. عادل العبدالمغني حول هذه الجزئية إن النصرالله أحضر آلات الطباعة لمدرسته من الهند، وحرص على أن تكون الدراسة بمدرسته على فترتين صباحية ومسائية، وإن من أبرز تلاميذه آنذاك رجل الأعمال يعقوب يوسف الجوعان، ومحمد علي الكليب، والأديب الشاعر يعقوب الرشيد، ويضيف ما مفاده أنه بعد أن أمضى النصرالله عدة سنوات في إدارة مدرسته أغلقها وباع آلاتها الطباعية على المكاتب التجارية بخسارة كبيرة، نظراً لتضاؤل أعداد الراغبين في تعلم الضرب على الآلة الكاتبة تدريجياً، بسبب توفر وظائف أكثر دخلاً.

المرحلة التالية من حياة الرجل شهدت انتقاله للعمل بمحاكم الكويت، حينما كان يترأسها رائد التعليم الأول وأول وزراء المعارف حينذاك الشيخ عبدالله الجابر الصباح (1900 ــ 1996)، واستمر كذلك إلى حين تقاعده في عام 1971.

وصفنا النصرالله بالأديب الشاعر، حيث كون لنفسه مكتبة ضخمة، جمع فيها نفائس الكتب في مختلف العلوم والمعارف، ولا سيما كتب الأدب والشعر، اللذين كان يتذوقهما ويفهمهما بعمق بدليل قيامه بنظم قصائد بالفصحى، تناولت أمور ودروس الحياة وعبرها ومعاناة النفس البشرية.

هذا ناهيك عن حفظه لمئات القصائد لفطاحلة الشعر العربي قديماً وحديثاً من تلك التي كان يستشهد بها في المجالس والدواوين والنقاشات والملتقيات الأدبية لرابطة الأدباء الكويتيين، التي كان أحد مؤسسيها وأعضائها الأكبر سناً. ومن شعره الرقيق ما نظمه في الحنين إلى مرابع البحرين، التي شهدت طفولته وصباه، وهي قصيدة نشرها سنة 1947 تحت عنوان «حنين الغريب» في صحيفة العرب التي كانت تصدر في بومباي، وقال فيها:

وطني نحو مائك العذب حنا

مغرم طير قلبه فيك غنى

يا بلاد الحبيب مسقط رأسي

وأماني الكئيب إذ يتمنى

يا بلادي ويا سميرة روحي

كيف يسلوك مولع ومعنى

يا بلادي ويا مرابع أنسي

قد تركت الجمال للناس فنا

من جهة أخرى عـُـرف النصرالله، الذي كان يكتم أشعاره عن الآخرين ولا ينشرها، أنه كان يقوم بتخميس بعض القصائد التي تعجبه من نظم الآخرين، والتخميس فن من فنون الشعر يقوم فيه الشاعر بجعل كل بيت من قصيدة ما مندمجاً مع ثلاثة أشطار من شعره، ومن ذلك تخميسه لقصيدة «علموه كيف يجفو فجفا» لأمير الشعراء أحمد شوقي، إذ كتب:

خدعوا ظبي الفلا حين صفا

ووشوا بي عنده وا أسفا

حسدوني إذ رأوه منصفا

(علموه كيف يجفو فجفا

ظالم لاقيت منه ما كفى)

وصفه الدكتور يعقوب يوسف الغنيم في مقال عنه بجريدة الوطن الكويتية (8/11/2011) بمناسبة وفاته عن 99 عاماً بتاريخ 6 نوفمبر 2011، بالإنسان الوفي كريم النفس، الحريص على استمرار علاقته بكل من يعرف.

كما أخبرنا عن جانب آخر من انشغالات النصرالله وهو حب السفر والترحال (إذ كان يمضي من شهور السنة ما لا يقل عن ثلاثة أشهر في السفر)، والكتابة عن مشاهداته وانطباعاته، زماناً ومكاناً وشخوصاً، في دفتر خاص كان لا يفارقه، لكن دون أن يطلع عليه أحد إلا في أضيق الحدود.

وفي السياق نفسه كتب د. عادل العبدالمغني في مقاله سالف الذكر إنه التقى بصاحبنا عدة مرات في التسعينيات في مصيف بحمدون اللبناني الذي كان يتردد عليه ويعشق الإقامة به، فأخبرنا أن النصرالله، رحمه الله، كان يفضل الجلوس بمقهى «الأرلكان»، بسبب شاعرية المكان المطل على وادي لامارتين الشهير، وأنهما كانا يذهبان معاً للصلاة بمسجد الخرافي (شيده الوجيه الكويتي محمد عبدالمحسن الخرافي في عام 1961)، فإذا ما تغيب الأمام اللبناني أو تأخر زكاه المصلون للإمامة، وأنهما كانا يعودان بعد ذلك للجلوس في مقهى آخر أو ممارسة رياضة المشي أو زيارة المكتبة الوحيدة في بحمدون لتوصية صاحبها بإحضار مؤلفات معينة من بيروت.

Email