في حوار أجراه الصديق الدكتور سليمان الهتلان في برنامجه المعروف «حديث العرب» على قناة سكاي نيوز عربية، قالت الناشرة الدكتورة فاطمة البودي إنها ترى أن القرّاء في الآونة الأخيرة أصبحوا يهتمون بكتب التاريخ، التي عادت تتخذ موقعاً مهماً لها في دور النشر، وأرجعت ذلك إلى الأحداث التي عاشتها الشعوب العربية عام 2011 ميلادية.

حيث أخذ الشباب يتجه إلى التزود بالتاريخ والتجارب السابقة ليعرف ما سيحدث في المستقبل. وأضافت إن الوعي بهوية كل بلد ازداد بعد الثورات، خاصة في الدول التي نجت منها وبقيت متماسكة، حيث عاد أغلب الشباب إلى قراءة الكتب التاريخية، لكنها لم تحدد شكل هذه الكتب، وما إذا كانت علميةً بحثيةً أم أنها أعمالٌ إبداعية.

لفت نظري تصريح الناشرة المصرية الفائزة بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها السابعة عشرة، فرع النشر والتقنيات الثقافية، وجعلني أعيد قراءة المشهد بشكلٍ عام، وأتلمس الأسباب التي دفعت الشباب إلى إعادة قراءة التاريخ، الذي يمثل الماضي، في حين يعتقد البعض أن العودة إلى الماضي مضيعةٌ للوقت.

ويعتبرون التطلع إلى المستقبل هو الاستثمار الحقيقي للوقت الذي هو كنزٌ ثمينٌ يجب استغلاله فيما يعود على الإنسان بالفائدة، وذهبت إلى التساؤل عن الجدوى من العودة إلى التاريخ وما يمكن أن تحققه، وكيف يمكن أن تحققه.

أوافق على أن إعادة قراءة التاريخ مفيدةٌ لكل الأجيال وفي كل العصور، لكن الأهم هو أخذ العبرة من هذه القراءة، والاستفادة من الدروس التي تقدمها لتجنب الوقوع في الأخطاء التي وقع فيها السابقون وإعادة استنساخها، وهو ما لا أعتقد أنه قد تحقق خلال العقود الماضية، أو خلال القرن الماضي وقرننا الحالي الذي نحن على وشك إكمال الربع الأول منه على الأقل.

بدليل أننا ما زلنا نجتر أحداثاً مضت عليها مئات السنين، تتشكل على اجترارنا لها آراؤنا وعلاقاتنا ونقاط الالتقاء والافتراق التي نرسم وفقاً لها خرائط أفكارنا ومعتقداتنا، ونبني على قاعدتها الأسوار ونرسم الحدود التي تفصل بيننا، وهي الأسوار نفسها التي بناها بينهم أولئك الذين اختلفوا وتحاربوا وتقاتلوا قبل مئات السنين.

كما قرأنا في كتب التاريخ التي نعود لقراءتها اليوم، لأنها المصدر الوحيد الذي نستقي منه معلوماتنا لمعرفة ما جرى مما لم نكن شهوداً عليه في ذلك الزمن البعيد.

أما ما حدث منذ بداية العشرية الثانية من قرننا الحالي فأغلبنا شهودٌ عليه، لذلك فإن ربطه بالتاريخ أو تفسيره به مفيدٌ، لأن ضم القديم إلى الجديد ومحاولة الاستفادة من دروس الماضي لرسم صورة المستقبل أو تخيلها مطلوبٌ، باعتبار الحياة سلسلةً متصلةً من الأحداث، وباعتبارنا مشاركين في هذه الأحداث بشكل أو بآخر، حتى لو كانت مشاركتنا هذه بالسكوت.

فيما أطلق عليه الأخوة المصريون الظرفاء «حزب الكنبة» أثناء أحداث يناير 2011م، وباعتبار أن «رفرفة جناح فراشة في الصين قد تنتج عنها فيضانات وأعاصير ورياح هادرة في أبعد الأماكن في أمريكا أو أوروبا أو أفريقيا» وفقاً لمصطلح (تأثير الفراشة) أو (نظرية الفوضى) التي ابتكرها عالم الرياضيات والأرصاد الجوية الأمريكي إدوارد لورنتز، والتي ظهرت لها مصداقيةٌ بالتجربة، ومن خلال الوقائع والأحداث التي عشناها.

لا أعرف ما إذا كان من باب الصدفة، أو هو بتأثير مجسات الذكاء الاصطناعي التي تطاردنا هذه الأيام في كل مكان وتقرأ أفكارنا، أن تكون أغلب الكتب التي قرأتها خلال الفترة الأخيرة تدور حول أحداثٍ تاريخيةٍ من الماضي، أو هي أعمالٌ روائيةٌ تستند إلى التاريخ.

وتستمد أحداثها منه، أذكر منها على سبيل المثال روايتي «الحلواني – ثلاثية الفاطميين» و«أولاد الناس – ثلاثية المماليك» للكاتبة المصرية ريم بسيوني، وهي أعمالٌ تقدم عبراً لا غنى عنها لكل الأجيال، إلى جانب المتعة التي توفرها للقارئ المتذوق الباحث عن الحقيقة.

أتفق مع الدكتورة فاطمة البودي، وربما يتفق كثيرون معنا، على أن زمننا هذا هو زمن الرواية، وأوافق على أن التاريخ أصبح يحتل موقعاً مهماً، ليس في الروايات فقط، وإنما في الأعمال الفنية أيضاً، مثل الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية الأجنبية، وأعتقد أن هذا يؤشر إلى أن العودة إلى التاريخ أصبحت ظاهرة عالمية، فمن لم يستفد من أحداث الماضي لن يتمكن من صناعة المستقبل.