يعيش الإنسان في الآن، ويفكر بالمستقبل الذي بدوره يصبح آناً بعد تحققه والآن الذي عاشه يصبح ماضياً. وهكذا هي سيرورة الزمن البشري.
واستنّ العلم الإنساني علماً خاصاً في التاريخ الماضي بدافع المعرفة والقبض على سنن تحولاته وتغيراته وتطوراته. عند هذا الحد فنحن في حقل العقلانية الواقعية.
لكننا نشهد هذه الأيام، وبخاصة بعد تطور وسائل التواصل الإلكترونية ولعاً بالماضي يصل حد الولع المرضي، وهو ولع لا يمت إلى علم التاريخ، ولا يعود إلى علماء التاريخ.
فلقد ضج النت: «فيسبوك»، والمواقع الإلكترونية و«انستغرام» بصراعات حول الماضي وقصصه، صراعات حول التاريخ القديم منذ ما قبل الميلاد والتاريخ العربي الإسلامي على وجه الخصوص. وهي صراعات واختلافات لا علاقة لها بالمعرفة التاريخية بل تعكس وعياً نكوصياً لا قيمة له في صناعة الحاضر أو المستقبل.
وأعود للسؤال: لماذا هذا الولع بالماضي في عالمنا العربي من قبل أقلام لا تنتمي إلى علم التاريخ وعلى هذا النحو المرضي؟
أتراه صراع هويات تعشش في الذاكرة ثم تتحول إلى ساحة صراع هوياتي؟
هذه الهويات القديمة التي تبني أعشاشها في العقول المعاصرة تؤكد الهروب من العالم المعيش ومشكلاته الحقيقية، هروب هو ثمرة عجز الإرادة عن صناعة عالم يحقق السعادة البشرية.
هذا الهروب المرضي من الواقع ينتج الصراعات المرضية الزائفة، والصراعات المرضية المتولدة من الولع المرضي بالماضي لا تقود إلا إلى تدمير البلاد والعباد.
لنأخذ نماذج من هذا الولع المرضي بالماضي ونسأل ما قيمته في صناعة الحاضر الذي نسعى للعيش فيه بكل علاقات معشرية آمنة.
تنظر بعض الأقلام التي تعتقد بأن هويتها القديمة قد تم الاعتداء عليها من العرب في القرن السابع، وإن عرب اليوم من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي لا ينتمون إلى بلاد الشام والعراق ومصر والمغرب الخ.
وتبدأ الشجارات على صفحات التواصل الاجتماعي وما شابه ذلك، شجارات ليس لها أية قيمة لا معرفية ولا عملية.
إذ ينبري عربي الهوية للرد بقوله إن العرب منذ ما قبل الميلاد هم السكان الأصليون في بلاد الشام والعراق، فيرد عليه ذو هوية آشورية الأشوريون هم أصل سكان هذه البلاد، ويتدخل كردي ويعلن بأن السومريين أجدادنا هم الأصل والفصل، وإذا بشخص يعلن أنه فينيقي وهكذا.
هب بأن جميع المتحدثين صادقون، ما الذي سيغير حياتنا الراهنة التي نعيشها، وما هو المستقبل المرتبط بهذا الولع المرضي بالماضي.
وتأمل معي أيها القارئ العزيز تلك المعارك المسيئة للعيش المشترك بين منهم مع هذا الطرف أو ذاك من المتصارعين على السلطة في الماضي. وإيراد قصص القتل التي تمت وانتهت قبل ألف وخمسة قرون.
كيف باستطاعتنا أن نصنع عالماً جديداً وهويات وطنية بناء على استحضار صراعات الماضي، وهذا الولع باستحضار ماض يولد الشجار؟
وزيادة الطين بِلة حين يتحول صراع على الماضي إلى صراع قاتل في الحاضر، فيدخل عالم السياسة والأيديولوجيا القاتلة. وتبدأ عمليات الثأر المتبادلة بين المتصارعين.
إن أحداً من المصابين بالولع المرضي القاتل بالماضي لا يتساءل ولم يتساءل: هل هناك قوة على وجه الأرض قادرة على إعادة صناعة الماضي وتغيير مساره الذي تم؟
هل هناك قوة على هذه الأرض كلها قادرة على إعادة الأرواح للذين قضوا وقُتلوا؟
يمكننا أن نحب رموز تاريخنا الماضي بل ويجب أن ننظر إليهم نظرة فيها من الإيجابية أو النقد، ولكن لا يجوز إطلاقاً وطنياً وإنسانياً وأخلاقياً أن نجعل من رموز الماضي أساساً لصراع راهن ولهويات متقاتلة.
ليس هناك حالة أكثر إساءة للعيش المشترك من أن يكون مقوم من مقومات هوية ما كره هوية آخر.