الانتخابات الأمريكية بعيدة ليست في المدة الزمنية (أربعة أشهر فقط) بل في الحسابات الانتخابية. صحيح أن أربعة أشهر مدة قصيرة ولكنها طويلة لإحداث ربكة تغير الموازين.
هناك ما يسميه الأمريكيون «مفاجأة أكتوبر». مفاجأة أكتوبر هو حدث أو خبر يظهر فجأة ويغير مسار الانتخابات الرئاسية شهر قبل الانتخابات الرئاسية التي تجري في أول ثلاثاء من نوفمبر. ولهذا السبب سمي بمفاجأة أكتوبر، أي الشهر الذي يسبق الانتخابات.
ومهما كان الأمر، فإن المرشحين الرئاسيين هما كفرسي رهان، والفارق بينهما ضمن هامش الخطأ. ولكن فرص ترامب تحسنت بعد محاولة الاغتيال الفاشلة. المشكلة أن ترامب لا يستطيع أن ينضبط.
وفي خطابه أمام مؤتمر الحزب الجمهوري، أهدر الرئيس السابق فرصة ظهوره بمظهر رئاسي حين استهل خطابه بنبرة متصالحة وإيجابية لتوحيد الحزب والأمة الأمريكية خلف قيادته. ولكنه ما لبث أن خرج عن النص وبدأ بخطابه المعتاد الموسوم بالسلبية المعتادة ومهاجمة خصومه يمنة ويسرى.
في السياسة — والحياة عموماً — ليس الأهم ما ترفضه بقدر ما هو البديل الذي تقترحه. ليس لترامب برنامج بديل لفترة رئاسته إذا ما فاز بالانتخابات المقبلة، اللهم عبارات عمومية مثل «جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» ومنع المهاجرين من دخول الولايات المتحدة، وبناء الجدار بين الولايات المتحدة والمكسيك، ومحاصرة الصين تجارياً عبر جمارك عالية.
لكن مؤسسة هيرتج المحافظة انبرت لتعلن عن برنامج أو مشروع 2025 إذا ما فاز ترامب بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل.
لم يزكِّ ترامب البرنامج رسمياً ولكن الاعتقاد السائد أن ترامب سيتبنى هذا المشروع كبرنامجه لفترة رئاسته الثانية. المشروع المسمى «مشروع الانتقال الرئاسي 2025» (أو مشروع 2025 اختصاراً)، والذي يقع في 900 صفحة ونيف، مشروع طموح يروم إلى تغيير جذري في المجتمع والدولة. وإذا ما قيض للمشروع التطبيق فإنه سيشكل ثورة ستقودها الإدارة الجديدة من أعلى هرم الدولة.
وإذا كان صحيحاً أن الكتاب يقرأ من عنوانه فإن الكتاب، والذي يقع في 900 صفحة ونيف، معنون «تفويض للقيادة: التعهد المحافظ». هناك تهمة موجهة من قبل أنصار ترامب أن الدولة العميقة (البيروقراطية والمؤسسات الأمنية والعسكرية) قوضت برنامج ترامب في فترته الأولى، لذا من الواجب تغيير بنية الدولة من خلال إعادة هيكلة البيروقراطية عبر تعيينات سياسية وجذب عناصر مؤيدة وموالية للرئيس ترامب.
فعلى سبيل المثال يقترح البرنامج تسريح كبار موظفي وزارة الخارجية وإحلال بدائل موالية للأجندة المحافظة للرئيس العتيد. والاعتقاد أن موظفي الخارجية يجنحون إلى اليسار ولا يتوافقون مع رؤية ترامب في السياسة الخارجية والدبلوماسية.
ويستند هذا التوجه إلى تأويل المادة الثانية من الدستور الأمريكي والذي يقتضي وحدة السلطة التنفيذية في قبضة الرئيس. ولا يعترف هذا التفسير باستقلالية الوحدات المكونة للسلطة الاتحادية، بما فيها مكتب التحقيق الاتحادي، أو وزارة العدل والوكالات الأخرى التابعة للسلطة التنفيذية.
سيهتم الكثير في الخارج بالمشروع 2025 لجهة برنامج السياسة الخارجية، وهم يعلمون أن ترامب يقول ما يفعل ويفعل ما يقول، رغم أنه لا يستطيع أن يتغلب دائماً على العوائق.
من أهم النقاط التي وردت في المشروع حول السياسة الخارجية والأمن الوطني هو أن العدوّة الأولى للولايات المتحدة هي الصين. ويقول التقرير لعقود خلت قامت النخبة السياسية والاقتصادية الأمريكية باحتضان وإغناء النظام الشيوعي.
بينما أفرغوا الولايات المتحدة من أساساتها الصناعية. كما هاجم المشروع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والتي تتبع أجندة ليبرالية في الخارج فيما يتعلق بالإجهاض والحماية، والبيئة الراديكالية وقضايا حقوق المرأة المتطرفة.
ولا يدعو المشروع للانعزالية أو الإمعان في التدخلات الخارجية، بل يدعو إلى تقديم المصلحة الوطنية في السياسة الخارجية. وبالنسبة للأسلحة النووية، على الولايات المتحدة ألا تقدم مظلة نووية إلا إلى الحلفاء في الناتو، على أن يلتزموا بزيادة إنفاقهم العسكري لتعزيز القدرات الدفاعية لردع العدوان الروسي. كما يقول المشروع بزيادة الترسانة النووية كاستراتيجية للدفاع عن الولايات المتحدة.
من نافل القول إن هذه المقالة غيض من فيض للبرنامج الذي تسعى القوى المحافظة لتطبيقه. البرنامج طموح ولا يبدو أنه سيمر بسهولة، ولكن سيوسع من الشرخ في المجتمع الأمريكي: أرى تحت الرماد وميض نار ويوشك أن يكون لـه ضـرام.