ظلت رابطة «آسيان»، منذ تأسيسها في 1967 من خمس دول (سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا وتايلاند والفلبين) نموذجاً للتعاون الإقليمي وكياناً صامداً في وجه العواصف والحروب والاضطرابات التي شهدها آسيا آنذاك مثل النزاعات الحدودية والتوترات العرقية وحركات التمرد الشيوعية والحرب الفيتنامية والحروب بالوكالة في لاوس وكمبوديا.
وعلى الرغم من كل هذه التحديات، واصلت سفينة آسيان الإبحار، وحاولت إيجاد مفهوم مشترك بين دولها المتباينة في أنظمة حكمها وسياساتها من أجل التعاون والتكامل الاقتصادي الهادف إلى بناء مجتمعات نابضة بالحياة والعلم والمعرفة.
وحتى بعد أن منحت المنظومة عضويتها لدول أخرى في محيطها مثل بروناي وفيتنام ولاوس وبورما وكمبوديا، فإن تماسكها ورحلتها نحو تحقيق طموحاتها في الرخاء والازدهار لم تتأثر كثيراً، بدليل أنها اليوم من أنجح وأقوى التكتلات الإقليمية بعد الاتحاد الأوروبي، وصاحبة شبكة عالمية من التحالفات والشراكات.
ولأن التكتلات الإقليمية عرضة للتأثر بما يجري حولها من متغيرات، خصوصاً إذا كنا نتحدث عن عالم مضطرب يسوده عدم اليقين، فإن آسيان بدأت تعاني مؤخراً من خلافات في الرؤى بين أعضائها المؤسسين الكبار، ولا سيما لجهة الموقف من العملاق الصيني الذي ينازع مجموعة من أعضاء آسيان حقوق السيادة على جزر صغيرة في بحر الصين الجنوبي، وعلى المياه المشاطئة.
هذه الخلافات كانت حاضرة بقوة في اجتماعات المائدة المستديرة الـ 37 لآسيا والمحيط الهادئ التي عقدت مؤخراً في كوالالمبور.
إذ أظهرت الخطب واللقاءات والنقاشات وجود بون شاسع في الموقف من الصين، التي يعتبرها بعض أعضاء آسيان قوة إقليمية كبرى تسعى إلى التوسع والهيمنة، وبالتالي يجب الحذر منها وعدم التهاون في الرد على مخططاتها، فيما يعتبرها البعض الآخر قوة إقليمية كبرى يجب التفاوض معها للوصول إلى حلول سلمية بشأن القضايا المختلف عليها.
يقود التوجه الأول الفلبين في ظل حكومة رئيسها الحالي «بونغ بونغ ماركوس» الذي هجر سياسات سلفه «رودريغو دوتيرتي» التصالحية مع بكين، وهو يتبنى سياسة مغايرة قوامها التصدي لمشاريع الصين التوسعية وتحركات أساطيلها في المياه المتنازع عليها.
وذلك من خلال السعي للحصول على دعم القوى الإقليمية والعالمية، ولا سيما دعم حليفتها التاريخية الأمريكية، ثم من خلال شراء المزيد من الأسلحة المتطورة والقيام بمناورات بحرية وجوية مع قوات الدول الحليفة، ناهيك عن التودد إلى الاتحاد الأوروبي والذي أثمر بالفعل عن تعهدات من قبل مفوضيتها بتعزيز التعاون الأمني البحري مع مانيلا، وموافقة كل من هولندا والنرويج على تزويدها بصفقات أسلحة.
أما التوجه الثاني فتقوده ماليزيا التي تحتفظ بعلاقات سياسية واقتصادية متينة مع الصين، لا تريد أن تخسرها، وبالتالي فهي تتبنى وجهة نظر مفادها ضرورة الانفتاح على الصين والتفاوض معها حول الأمور الخلافية بدلاً من التصعيد.
والغريب في موقف كوالالمبور وزعيمها أنور إبراهيم أن ماليزيا هي من ضمن الدول التي تنازعها الصين حقوق السيادة على الأراضي والمياه في بحر الصين الجنوبي، بدليل حدوث مواجهة بين البلدين في العام الماضي حول قيام شركة «بتروناس» النفطية المملوكة للدولة الماليزية بتطوير مشروع لاحتجاز الكربون في حقل غاز كاساواري المتنازع عليه.
هذا علماً أن مواقف أنور إبراهيم المهادنة هذه لبكين ووجهت بانتقادات داخلية مريرة.
وما بين الموقفين يبرز موقف آسيان الصامت، فبدلاً من أن تدعم الرابطة موقف الفلبين، باعتبارها عضواً مؤسساً، كما فعلت سنغافورة وفيتنام وتايلاند، نجدها صامتة وغير مكترثة بتطورات الأوضاع بين بكين ومانيلا والتي كان آخرها اشتباكاً بحرياً بين قوات البلدين بالقرب من منطقة «توماس شول» الثانية المتنازع عليها.
في تلك الواقعة لقي مواطن فلبيني حتفه على أيدي الجنود الصينيين، الأمر الذي اعتبرته مانيلا عملاً من أعمال الحرب.
ومما لا شك فيه أن تباين المواقف هذا داخل «آسيان» خلق حالة من التشاؤم حول مسيرة التكتل وتماسكه.
لكن مراقبين كثراً يعولون على موقف إندونيسيا، العضو المؤسس والمؤثر، لرأب الصدع، علماً أن جاكرتا نأت بنفسها حتى الآن عن الدخول في الاستقطابات الدائرة، على الرغم من أنها معنية بالخلافات مع الصين كونها هي الأخرى أيضاً ضمن الدول التي تنازعها الصين حقوق السيادة على الأراضي والمياه، ناهيك عن أن الثقة مفقودة تاريخياً بين جاكرتا وبكين منذ الستينات على خلفية الانقلاب الدموي الذي دعمته بكين لتحويل إندونيسيا إلى دولة شيوعية.
وبانتظار تغيير قد يحدث في سياسات جاكرتا الخارجية في عهد رئيسها المنتخب حديثاً الجنرال «براباوو سوبيانتو»، فإن آسيان تبقى عاجزة ومهددة بالتصدع بسبب الصين.